&محمد البشاري

&لقد أدركت الأمم المتحدة أهمية فكرة التسامح الديني، فأثارت الانتباه إلى مكانته في الحفاظ على مبادئ السلم والأمن الدوليين، مشددة على احترام حرية الفكر والوجدان، وحرية الدين والمعتقد أياً كان. ومن ثم أعلنت تأكيدها على أن الإساءة إلى الأديان قد تكون سبباً مباشراً أو غير مباشر في إذكاء الحروب التي جلبت للبشرية مآسي بالغة، بفعل ما نتج عنها من تدخل أجنبي في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. وفي دعوتها لذلك استحضرت الأمم المتحدة مآسي الماضي البعيد المرتبط بالحروب الدينية، وآلام الماضي القريب الذي لم تفلح عصبة الأمم وما تبعها من اتفاقيات لحماية الحقوق الدينية للأقليات في تفاديها، مما أدى إلى خرق قواعد القانون الدولي، وإلى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.

لقد عملت بعض وسائل الإعلام الغربية على إذكاء ظاهرة الإسلاموفوبيا في علاقتها بالإساءة للدين الإسلامي ورموزه ومقدساته بما نشرته ومازالت تنشره من صور نمطية حول المسلمين والعرب، وحول الإسلام الذي تنعته بدين الإرهاب. لذلك بدأت الدعوات تتصاعد من داخل الأمم المتحدة، في الجمعية العامة وفي مجلس حقوق الإنسان، من أجل وضع قانون دولي ملزم لردع ولمنع انتشار هذه الظاهرة، ينسجم وفكرة احترام الأديان، ويتوافق مع ما ورد من مبادئ حول الموضوع منذ عصر الأنوار، ومع ما جاءت به الإعلانات الثورية عقب الثورات البورجوازية، واستمر منذ ذلك التاريخ إلى نشوء عصبة الأمم، فالأمم المتحدة.&
أصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، الخميس قبل الماضي 25 أكتوبر 2018، حكماً قضائياً بأن الإساءة للرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – لا تندرج ضمن حرية التعبير، جاء القرار دعماً لحكم صدر في النمسا ضد سيدة نمساوية (47 عاماً) حكمت المحاكم الإقليمية بتغريمها 480 يورو،، إضافة إلى مصاريف التقاضي بتهمة الإساءة للرسول الكريم عام 2009.


وعللت المحكمة حكمها بإن الإدانة الجنائية ضد سيدة نمساوية أطلقت تصريحات مسيئة للرسول وتغريمها 480 يورو «لا يعد انتهاكاً لحقها في حرية التعبير»، ذلك أن المحاكم المحلية (في النمسا) قامت بتوازن دقيق بين حق المرأة في حرية التعبير وحق الآخرين في حماية مشاعرهم الدينية، والحفاظ على السلام الديني في النمسا». واعتبرت المحكمة، أن تصريحات السيدة «تجاوزت الحد المسموح به في النقاش، وتصنف كهجوم مسيء على رسول الإسلام، كما تعرض السلام الديني للخطر». وبدأت الواقعة عام 2009، عندما عقدت السيدة النمساوية ندوتين تحدثت خلالهما عن زيجات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأطلقت فيهما تصريحات مسيئة للنبي. وفي 15 فبراير 2011، وجدت المحكمة الجنائية الإقليمية في فيينا، أن هذه التصريحات «تهين المعتقدات الدينية»، وأيدت القرار محكمة الاستئناف في ديسمبر من العام ذاته، بعد أن طالبت السيدة بالاستئناف على الحكم.
يأتي قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان مسترشداً بما أكده مؤتمر الأمم المتحدة لحقوق الإنسان المنعقد في فيينا 1993 في مطالبة الحكومات باتخاذ التدابير المناسبة لمواجهة أشكال التعصب العنصري وعدم التسامح الديني، وأيضاً المؤتمر العالمي الثالث لمناهضة العنصرية والتمييز العنصري وكراهية الأجانب وأشكال عدم التسامح الأخرى المنعقد بدربان ما بين 31 أغسطس إلى 8 سبتمبر 2001. وتأسيسا على قرار مجلس حقوق الإنسان رقم (16/18) والخاص بمكافحة التحريض على الكراهية والتمييز والعنف بسبب الدين والمعتقد بوصفه إنجازاً بارزاً في إطار ما تبذله الأمم المتحدة من جهود لمكافحة التحريض على الكراهية والتمييز والوصم والعنف بسبب الدين والمعتقد.
وهذا ما أكده مرسوم قانون رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان (رقم2 لسنة 2015) بشأن مكافحة التمييز والكراهية، الذي يقضي بتجريم الأفعال المرتبطة بازدراء الأديان ومقدساتها، ومكافحة كافة أشكال التمييز ونبذ خطاب الكراهية عبر مختلف وسائل وطرق التعبير. وحظر الإساءة إلى الذات الإلهية أو الأديان أو الأنبياء أو الرسل أو الكتب السماوية أو دور العبادة، أو التمييز بين الأفراد أو الجماعات على أساس الدين أو العقيدة أو المذهب أو الملة أو الطائفة أو العرق أو اللون أو الأصل الإثني.


الإساءة إلى الأديان بقيمها رموزها وطقوسها بوساطة مختلف وسائل الإعلام، أمر مخالف لما تتضمنه قواعد القانون الدولي على المستويين العالمي والقاري من مبادئ تحرم الإساءة إلى الأديان وتدعو إلى التسامح، وتنبذ مختلف صور التمييز، سواء أكان عرقياً أو إثنياً أودينياً، استناداً إلى مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمعاهدات والمواثيق المنبثقة.
فهل ستعمل الدول اقتداء بدولة الإمارات العربية على تفعيل القرار رقم 65/224 بشأن مناهضة تشويه صورة الأديان الصادر عن الدورة الخامسة والستين للجمعية العمومية للأمم المتحدة بتاريخ 11 أبريل 2011، وخاصة التوصية رقم 16 التي (تحث جميع الدول على القيام، في إطار نظمها القانونية والدستورية، بتوفير الحماية الكافية من جميع أعمال الكراهية والتمييز والتخويف والإكراه الناجمة عن الحط من شأن الأديان وعن التحريض على الكراهية الدينية عموما)؟ أم ستبقى لوبيات «الحقوقيين» المأجورين تتحكم في مسار مفهوم «حرية الرأي والتعبير» لتستغله في معاقبة المخالفين لها، ضاربة عرض الحائط بذلك كل قرارات الشرعية الدولية في الموضوع وما تريده الشعوب؟

&

&

&