&خليل علي حيدر&

انقلب الرئيس حافظ الأسد عام 1970 على حزب البعث في "الحركة التصحيحية"، فكان أول اهتماماته توسيع قاعدة الدعم لنظامه، فدعا شيوخ العشائر ومعارضين آخرين للعودة إلى سورية، ومنهم شيخ الحديديين الذي كان في المنفى في الأردن تحت حماية الملك حسين، وأصبحت العلاقات مع عشائر البدو أكثر سخاء، كما شجع الأسد إعطاء القبائل بعض الحرية في المجال القانوني، وفي حل النزاعات بين أفراد العشائر، خلافا لقانون 1958 الذي جرد عشائر البدو من حقهم في تسوية النزاعات فيما بينهم بحسب مبادئ القانون العرفي، كما أرسل مستشاراً مقربا لتسوية ثأر قبلي امتد عقوداً، وقُتل فيه أكثر من عشرة أفراد من العشائر، وانسحبت الشرطة المحلية منه مرات عدة تحت النيران الكثيفة، ونجح تدخل الرئيس الأسد فتم الاتفاق على السلام، ودُفعت دية القتلى، كما راقبت السلطة دون تدخل مباشر المذبحة بين عشائر "الموالي" و"الحديديين" سنة 1994، حيث علمت الشرطة بأمرها ولكن راقبتها من بعيد سامحة لمحكّم عشائري بدعم من الحكومة بحل المسألة.

وعلى الرغم من أن فلسفة البعث كانت تهدف إلى التخلص من المصالح الطائفية والعشائرية، تقول الباحثة البريطانية تشاتي chatty: "أجرى الأسد إصلاحات أتاحت للبدو، من بين أقليات أخرى، مواصلة إدارة نظام بديل للسلطة بقوة حليفة للدولة. ومن فطنة الأسد أنه في الوقت نفسه أقام، ربما خوفاً من أن تخرج سلطة عشائر البدو عن السيطرة، علاقات مع عدة شيوخ ثانويين بوصفهم خصوماً محتملين، إن اقتضت الحاجة في المستقبل".

اشتهر عهد حافظ الأسد بمجزرة حماة 1982 عندما قاد الإخوان المسلمون انتفاضة كبيرة في المدينة وقام الرئيس بإخمادها بالطيران والقصف الجوي.

"ثمة أدلة قوية على أن عشائر من البدو"، تقول الباحثة "دعيت في سنة 1982 لمساعدة النظام في إقامة جدار عازل حول حماة ومراقبة التحركات حول المدينة، والتحقق من تدفق الأسلحة من الحدود العراقية". كان هذا الظرف الذي تشير إليه الباحثة متزامنا مع تصاعد العداء بين نظامي البعث في العراق وسورية، وانغماس صدام حسين في الحرب العراقية الإيرانية والتحالف السوري- الإيراني ضد الرئيس العراقي.

علق الرئيس الأسد بعد سنة 1982 كل سياسة حكومية تخص القبائل، وسرى ذلك في عهد الرئيس بشار. وتقول الباحثة "إنه ما عاد هناك خطط جديدة لتوطين البدو، وسُنّت قوانين تحظر الزراعة، خصوصا الشعير، في البادية لحماية مناطق الرعي التقليدية".

رغم تذبذب هذه السياسة الزراعية، إذ كان "يتم التراجع عنها تبعا لمن يتسلم منصب وزير الزراعة ونوع العلاقة الزبائنية التي تربطه بقيادة عشائر البدو، وفي السنوات الأخيرة كان وزير الزراعة بدوي الأصل (من الحديديين) ومنحازا دائما إلى جانب البدو في النزاعات بين البدو ومديرية شؤون البادية".

(مقال "القبائل والقبيلة والهوية السياسية في سورية المعاصرة" نفسه، داون تشاتي، دورية عمران، قطر شتاء 2016 العدد العاشر).

واصل الرئيسان حافظ وبشار الأسد تهدئة وترضية القبائل، واستمرت دعوة العشائر للعودة الى البلد. وتقول الباحثة: "بدأ الأفراد تدريجيا يعرفون عن أنفسهم بأنهم بدو أو عشائريون، وفي السنوات الأخيرة عين الرئيس أكثر من مرة بدويا وزيرا للزراعة، ومُنح البدو أيضا مناصب مهمة في وزارة الداخلية، وفي القيادة القطرية لحزب البعث، فمحافظ درعا في سنة 2010، على سبيل المثال، كان شيخ عشيرة العقيدات، وقد أسفر هذا التوجه الحكومي عن زعم عدد من أعضاء حزب البعث أنهم من أصول بدوية، وهو ما ادعاه أعضاء آخرون مهمون في جهاز الأمن الداخلي، ويشاع أن آصف شوكت زوج شقيقة بشار، والذي كان حتى أبريل 2008 رئيسا للأمن الداخلي، ينتمي إلى عشيرة بني خالد، وهي عشيرة سورية ترعى الأغنام قرب جبال العلويين".

وقد يتساءل القارئ عن حجم العشائر في سورية، فتقول الباحثة بأنه لا توجد إحصاءات رسمية عن تعداد البدو في سورية، كما لا يمتلك المكتب المركزي للإحصاء تصنيفا للبدو، وهذا، تقول الباحثة، يتماشى مع فلسفة حزب البعث، وتضيف: "ولكن في وسعنا أن نستنتج من أعداد الماشية فكرة عن حضور البدو وأهميتهم بالنسبة إلى اقتصاد الدولة وسياساتها، وعلى مدى عقود عدة، لم يكن في الإمكان حمل أي مسؤول حكومي على إعطاء تقدير لأعداد البدو، ولكن في سنة 1999 قدّر وزير الصحة عددهم بنحو 90 ألفا، أي ما يعادل 5-7 في المئة من إجمالي سكان سورية، وتشير تقديرات أحدث الباحثين إلى أن هذا الرقم يبلغ الضعف، وأن الذين يقولون عن أنفسهم بأنهم بدو هم قرابة 10-12 في المئة من إجمالي السوريين، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنه قد جرى في سنة 1943 تخصيص 10 مقاعد من مجموع 135 مقعدا (7 في المئة) لممثلي البدو (إرث من سياسة الانتداب الفرنسي)، فإن الوضع الحالي تغير كثيرا، ففي سنة 2010 كان 30 عضوا من مجموع 250 عضوا برلمانيا منتخبا (12 في المئة) من البدو، وهذا ليس انعكاسا لسياسة الدولة، بل تعبير عن قوة البدو في البادية، ويشير حجم هذا التمثيل إلى أن صوت البدو في البرلمان هو ما كان يجب أن يكون عليه لو أن المقاعد في البرلمان كانت تمثل عدد السكان فقط".

وفي لبنان كذلك، تقول، وبعد تغير المشهد السياسي إثر انسحاب الجيش السوري من البلاد سنة 2005، وتزايد تأثير العشائر، وتضيف: "فصورة البدوي الساذج المتجنس حديثا الذي كان يُنقل بالحافلات إلى مراكز الاقتراع في التسعينيات تستبدل الآن بالبدوي السياسي والمسيّس على أرض الواقع، ويعمل تحالف قوى 14 آذار تيار المستقبل بقوة من أجل الحصول على أصوات البدو حاليا وغالبيتهم من السنّة، وعلى الرغم من أن زهاء ثلث البدو اللبنانيين فقط حاصلون على الجنسية فإنهم بدؤوا يشكلون جمهور ناخبين كبيراً، وقد بلغت تعبئة البدو الذروة فيما عرف بانتفاضة العشائر في سنة 2008 عشية الانتخابات البرلمانية لسنة 2009، وأوجد هذا المنتدى خطابا سياسيا جديداً بشأن تميز البدو وحقوقهم في لبنان".

ماذا عن موقف العشائر من الانتفاضة السورية؟

جذبت الانتفاضة إلى الصراع زعماء من البدو من جميع أرجاء البادية، من هؤلاء كان شيخ "عشيرة الحسنة" في سورية الذي تحدث خلال أشهر التظاهرات السلمية بصراحة عن الحاجة إلى مزيد من الحرية، وكان ينشر ذلك على موقعه الإلكتروني، وكانت مدوناته تُقرأ بحماس. وقد انضم لاحقاً مع زعماء من "عنزة" و"شمر" إلى "المجلس القبلي السوري" في عمّان، ثم لاحقاً في إسطنبول، الذي انتخب فيما بعد الشيخ "أحمد الجربا" من عائلة عجيل الياور، شيخ مشايخ شمر، رئيساً لهذا المجلس.

وتقول الباحثة، "شاركت العشائر البدوية منذ البداية كوحدات للدفاع عن نفسها، لكنها بدأت تنحاز للانتفاضة بعد فترة"، وتضيف كأمثلة، إن قبيلة "العقيدات" شكلت مجموعات مسحلة تقاتل النظام، وكذا عشيرة "الحديديين" قرب حلب وإدلب، كما كانت لعشيرة "بني خالد" عدة كتائب تقاتل مع "الجيش السوري الحر" قرب حمص وضواحيها.

من ناحية أخرى، تقول الباحثة "لا يزال بعض زعماء العشائر المرتبطين سابقاً بالأجهزة الأمنية في سورية وفي لبنان موالين للنظام"، ولم تكن كل القبائل بعيدة عن الصراع المذهبي في الأزمة السورية، وتلاحظ الباحثة بالنسبة إلى عشيرة البقارة أن نحو ربع هذه العشيرة "اعتنق المذهب الشيعي نتيجة التبشير الذي تموله إيران"، وتضيف "وقد تجمع آخرون حول "البشير" نجل شيخ البقارة، ودعموا انشقاقه وانتقاله الى تركيا، وقد أعرب كثير من الحديديين عن غضبهم لأن أحد زعماء بطونهم يؤيد النظام، في حين تؤيد غالبية العشيرة المعارضة".

وبشكل عام، تؤكد الباحثة "تشاتي داون" في دراستها عن قبائل الشام أن "العشائر البدوية في دولتي سورية ولبنان المعاصرتين نجحت في الحفاظ على هويتها وسلطة زعامتها، وباتت سلطتهم وقوتهم الحالية موضع اعتراف المحليين والأجهزة الأمنية للدولة، وغدا كثيرون منهم أعضاء في البرلمان كما يتمتع بعضهم، وخصوصاً زعماء الحديديين والموالي والسبعة والفدعان، بنفوذ استثنائي بسبب حجم عشائرهم وموقعهم الاستراتيجي في القرى ومناطق الرعي وآبار المياه التي يسيطرون عليها".

ويمكن القول إن كثيرا من العشائر"غير الأصيلة" التي ترعى الأغنام موالية للنظام، في حين اصطفت العشائر العابرة للحدود والأكثر استقلالية، تقول الباحثة، مع قوات المعارضة.

وختاماً، تلاحظ الباحثة أن "لدى عدد كبير من زعماء البدو هؤلاء صفحات على شبكات التواصل الاجتماعي، ويتابع مواقع الإنترنت هذه أغلب رجال العشائر، لكن النزعة الفردية ليست بعيدة عنهم، إذ إن أي تصرف خاطئ من الزعيم يفقده أتباعه".

وهكذا في تقييم الباحثة، "انتقلت العشائر البدوية العابرة للحدود والمحلية في سورية ولبنان، انتقلت من الهامش لتغدو جزءاً مهماً من المشهد السياسي للانتفاضة السورية"، وبهذا تنتهي دراستها عن "القبائل والقبلية والهوية السياسية في سورية المعاصرة".