&السيد ولد أباه&


في الكلمة التي تقدم بها الشيخ عبد الله بن بيه، رئيس تعزيز منتدى السلم لحوارات «المواطنة الشاملة» التي التأمت في أبوظبي الأسبوع الماضي، دعوة قوية إلى المصالحة بين الهوية الدينية والهوية الوطنية، وفق تصور إسلامي جديد مستند إلى قراءة معاصرة لصحيفة المدينة المنورة التي هي أول وثيقة دستورية في الإسلام. وفق هذا التصور، تقوم المواطنة الشاملة على مبدئين أساسيين هما الاعتراف بالتعددية وإقرار الحرية الدينية، والأخذ بمعيار الواجبات المتبادلة والحقوق المتساوية.
إن هذه المقاربة تؤسس لنقلة متميزة داخل الفكر الإسلامي الذي هيمنت عليه مطولاً إما أدبيات الأحكام السلطانية التي تصدر عن خلفية مغايرة للدولة الحديثة القائمة على المواطنة المتساوية، أو أدبيات الإسلام السياسي التي تصدر عن فهم مختل للحاكمية الإلهية بتحويلها إلى مبدأ للشرعية السياسية دون إدراك الخطر الناجم عن هذا التصور الذي ينتهك مبادئ عقيدة التوحيد نفسها بتبني أطروحة قابلية تجسيد الدين في المعادلة السياسية البشرية.


إن أهمية فكرة المواطنة الشاملة تكمن في كونها تؤدي من جهة إلى مصالحة المجتمعات المسلمة مع الدولة الوطنية الحديثة التي ثبت أنها الإطار الأوحد الفاعل لحفظ وصيانة الوجود الاجتماعي المشترك، كما تؤدي من جهة أخرى إلى مصالحة الفكر الإسلامي مع مبدأ الشرعية التعاقدية العقلانية للمجتمع السياسي المنظم الذي لا يجوز الخلط بينه والمنظومة العلمانية التي هي منظومة قانونية ودستورية لها سياقاتها وأنماط تشكلها المتعددة المتباينة.
وكما يبين عالم الاجتماع الفرنسي «بيار روزنفالون»، يقوم مبدأ المواطنة الذي كرسته الثورتان الفرنسية والأميركية في القرن الـ18 على هدف بناء مجتمع من الأفراد الأحرار المتساوين من خلال محددات ثلاثة: المساواة الشاملة من منظور التماثل الجوهري بين البشر في السمات والقدرات الطبيعية والعقلية، حرية الأفراد من حيث كونهم ذوات فاعلة مستقلة ومسؤولة، وحقوق المشاركة في النسق العام بالنظر إلى الأفراد كافة كعناصر فاعلة في جسم اجتماعي موحد ومندمج.
إن هذه المحددات الثلاثة لا تتعارض بداهة مع المدونة المعيارية والشرعية الإسلامية، بل هي من مسلماتها البديهية، بيد أن الإشكال يطرح في مستويين هما: السياق السياسي المؤسسي لهذه القيم المحددة لمعيار المواطنة الشاملة، والسياق النظري لهذه القيم في مستوى المرجعيات الفلسفية الحديثة التي تختلف بطبيعة الأمر عن الأدبيات التيولوجية والكلامية الوسيطة.


الإشكال الأول يحيلنا إلى علاقة القيم الليبرالية المحددة لمعايير المواطنة والشكل المؤسسي للدولة الوطنية الحديثة، والإشكال الثاني يحيلنا إلى علاقة هذه القيم الليبرالية بالمرجعيات العقدية والتشريعية الإسلامية.&
بخصوص الإشكال الأول، نحيل إلى المفارقة التي تحدثت عنها الفيلسوفة الألمانية «حنة ارندت» بملاحظتها أن الثقافة السياسية للدولة الوطنية الحديثة تستند إلى مدونة حقوق الإنسان الكونية التي هي سابقة على الانتماءات السياسية وتتعلق بالإنسان من حيث هو فرد حر مستقل، بينما لو جرد الإنسان من هذه الانتماءات الوطنية، فقَدَ كاملَ حقوقه كإنسان، ومن هنا مأساوية وضع فاقد الوطن الذي لا هوية له ولا حقوق.
فمن الواضح إذن أن ثمة علاقة عضوية بين حقوق الإنسان المجرد وحقوق المواطنة المؤسسية داخل دولة وطنية تكفل المساواة بين أفرادها. وإذا كان الفيلسوف الألماني هابرماس قد تبنى معيار المواطنة الدستورية خارج نطاق الدولة الوطنية التي لم تعد في أحيان كثيرة تحتكر معيار السيادة، فإن الإشكالات المعقدة التي تعرفها اليوم الساحة السياسية الدولية تبيّن من خلال تصاعد موجة الشعبويات الجديدة في الديمقراطيات العريقة، أن التشبث بالهوية والانتماء الوطني مصدره الأساس هو الدفاع عن حقوق جوهرية لا يمكن الاحتفاظ بها خارج الدولة الوطنية المندمجة.


أما الإشكال الثاني، فيصرف عادة خارج سياقه بتحويل مسألة الشرعية السياسية إلى مسألة شرعية دينية، ومن هنا يتم إما رفض الشرعية العقلانية للدولة الحديثة باعتبارها دولة علمانيةً معاديةً للدين أو التأقلم البرغماتي المصلحي مع القواعد الإجرائية للحقل السياسي الحديث للوصول إلى السلطة دون قبول القواعد المعيارية لهذا الحقل.&
ما بينته ورقة العلامة بن بيه هو أن قيم الحرية الدينية والتعددية والمشاركة ليست أفكاراً دخيلة على التقليد الإسلامي، بل هي أصله، ومن هنا ضرورة التمييز بين هذه الأصول والسياقات الظرفية التي تترجمها أحياناً الآراءُ الكلامية والفقهية التي سطرت في عصور الفتنة الأهلية والحروب الدينية.
من المتوقع أن تفضي حوارات المواطنة التي بدأت الأسبوع الماضي إلى إصدار إعلان أبوظبي حول المواطنة الشاملة في بلد جعل من المواطنة المتساوية والتسامح الديني والفكري شعاراً مميِّزاً له.
&