&محمد أبوالفضل

&من الممكن حل الكثير من عقد الأزمة الليبية ووضعها على طريق التسوية، لو أدرك المجتمع الدولى مبكرا حجم المخاطر التى يمثلها انتشار الميليشيات المسلحة فى طرابلس، لكن يبدو أن العالم كان بحاجة لوقوع خسائر كبيرة فى الأرواح والمنشآت ليدرك وجود ضرورة لرفع سيف العقوبات على رقبة الكتائب المسلحة.

&الخطوة التى أقدمت عليها الأمم المتحدة ثم الولايات المتحدة أخيرا، بفرض عقوبات على قائد ما يسمى لواء الصمود صلاح بادي، تحمل دلالات عديدة لغيره من قادة العصابات المسلحة، والدول التى تقف خلفهم، وتعد مكملة لخطوة مماثلة فى سبتمبر الماضى استهدفت إبراهيم الجضران، عندما قامت ميليشياته بتكرار الهجوم على منطقة الهلال النفطي.

اللجوء إلى سلاح العقوبات جاء بعد أن بُح صوت بعض القوى بشأن تسريع عملية إنهاء عصر هؤلاء القتلة، والمطالبة بالتعامل معهم بقسوة باعتباره المدخل الصحيح لتسوية الأزمة الليبية، لأنهم أصبحوا قوة فوق القانون، وغالبية تحركاتهم تتم بتنسيق وتعاون مع قيادات تتبوأ مناصب رسمية فى الدولة، ويتحكمون فى كثير من المفاتيح السياسية والاقتصادية والأمنية. التضخم الذى ظهر على الميليشيات جعل من الصعوبة التخلص منها، وأفضى إلى تعامل البعض مع قادتها بحسبانهم سندا أمنيا، وآخرون لجأوا إليهم للاستقواء على قوى أخرى منافسة سياسيا، وهناك دول وجماعات وظفتهم بغرض استمرار التدهور فى ليبيا، ومنع الوصول لدرجة عالية من الهدوء، والابتعاد عن فكرة تبنى شيوع الأمن والسلام. المشكلة أن جهات كثيرة وجدت فى الكتائب المسلحة أداة للقوة الباطشة، تمنع تفعيل المؤسسة الشرطية، وتحول دون توحيد المؤسسة العسكرية، وسعوا لتقديم العصابات كفروع أمنية رسمية لتعطيل التوجهات الرامية لوقف عصر الميليشيات، ومعاملة قادتها كمجرمى حرب. الرؤية التى حكمت النظر إليهم كأداة مهيمنة وسادت لسنوات ومنحتهم حضورا قويا، فقدت بريقها لدى قوى كثيرة، لأنها تسببت فى إحراج البعض وتوجيه أصابع الاتهام إليهم ووصمتهم بأنهم يحرضون على نشر الفوضي، ويغضون الطرف عن الانتهاكات التى ترتكب، وهو ما ضاعف من خطورة الصمت على كثير من التجاوزات المسلحة فى طرابلس.

الصمت والتقاعس والتراخى والتواطؤ، أدى إلى مشكلات تعانيها الدول التى تحاول تقديم مقاربات إيجابية لحل الأزمة، فأحد العراقيل التى حالت دون مخرجات مؤتمر باريس كانت الميليشيات، وهم أيضا من أبرز المطبات التى تواجه نتائج مؤتمر باليرمو، الأمر الذى جعل قوى كثيرة تعيد النظر فى دورهم، لأن أى مبادرة جادة سوف تصطدم بهم. إشهار سلاح العقوبات فى وجه بادى والجضران وغيرهما، يمكن أن يكون رادعا لميليشيات كثيرة، إذا جرى تفعيله على الأرض، وعدم الاكتفاء بإصدار قرارات لمجرد إبراء الذمة، أو استخدامها وقت أن تمثل الكتائب المسلحة تهديدا مباشرا على مصالح بعض القوى الكبري.

الخطوة التى لقيت ترحيبا كبيرا من دوائر ليبية تستوجب تعميمها أيضا على باقى الميليشيات، فكل من بادى والجضران، يقف معهما طابور من الأسماء التى وجدت فى استمرار تدهور الأوضاع غذاء اقتصاديا وسياسيا وأمنيا لها، وتسعى بكل السبل وراء تخريب التحركات التى تهدف إلى الوصول لمرحلة صامدة من الترتيبات الأمنية. الأهمية الرئيسية لمعنى العقوبات تكمن فى الإشارات التى تحملها، وفى مقدمتها أن الفوضى المسلحة السائدة منذ سنوات حان وقت وقفها، وأن العالم يعى الخسائر التى قادت إليها، ودون تحجيم هؤلاء ومنع تكرار ممارساتهم القاتمة لن يكون هناك أفق إيجابى لحل الأزمة الليبية.

الانتخابات التى بشر بها غسان سلامة المبعوث الأممي، فى النصف الأول من العام المقبل، لن تكون قابلة للتنفيذ ما لم تصمت مدافع هؤلاء تماما، وتتخذ الإجراءات الصارمة التى تحول دون تأثيرهم على عملية سياسية يزداد اقتناع المجتمع الدولى بضرورة أن تأخذ حظها من المساندة، ومنع الأخطاء التى أعاقت نجاح بعض المبادرات الجادة. الرسالة الأهم أن الدول التى وقفت وراء دعم ظاهرة الميليشيات وقامت بمدها بالأسلحة واعتمدت عليها كأدوات سياسية فى الأزمة، سوف تفقد حضورها الظاهر، ولعل توقيت فرض العقوبات على صلاح بادى المعروف بعلاقاته الوثيقة بكل من تركيا وقطر، يؤكد أن مؤامرات اشعال الحروب فى ليبيا يمكن أن يتم كشف حيلها وألاعيبها. الخطوة جاءت عقب ربط بين تحركات بادى المفاجئة فى طرابلس، الأسبوع الماضي، وخيبة الأمل التى ظهرت على وفدى أنقرة والدوحة فى مؤتمر باليرمو لحل الأزمة الليبية، وأرادتا الإيحاء بأن من يسعون نحو تهميشهما سوف يواجهون بتحدى الكتائب المسلحة، بعد أن باتت تمثل الذراع الأمنية المغمورة بغطاء سياسى خارجي.

توسيع نطاق العقوبات تدريجيا، يبعث على الاطمئنان، ويمكن أن يكون وسيلة مهمة لتهيئة أجواء مناسبة لحل الأزمة، لكنه يستلزم التوصل لتفاهمات عميقة حول ترتيبات أمنية متماسكة فى طرابلس، ووجود قوة نظامية على الأرض، تسد الفراغ الحاصل فى تأمين المطارات والمؤسسات الرسمية.

الشروع فى مساعدة مصر لمواصلة جهودها لتوحيد المؤسسة العسكرية، خطوة حيوية، لأنها الجهة الوحيدة القادرة على ضبط الكثير من الأمور، وهو ما تحاول بعض الجهات تعطيلها، كى يستمر الانفلات وتتواصل الفوضي، وتصبح هناك حجج لدى البعض لاجهاض تحركات المجتمع الدولى الراغبة فى تسوية الأزمة الليبية، فقد استشعرت قوى عديدة خطورة تمدد العصابات المسلحة.

التقويض الحقيقى للميليشيات من خلال الدفع نحو وجود مؤسسة عسكرية موحدة ومنضبطة وقادرة على حفظ الأمن بمعناه الواسع، والذى يعمل من أجل الدولة الليبية، وليس لتقوية أى جبهة سياسية، تريد أن تضع قدميها فى الحكم بعيدا عن الاحتكام إلى صناديق الاقتراع.

بلورة رؤية دولية واضحة للتسوية، أصبح أقرب من أى وقت مضي، مما يستفز الميليشيات والجهات الداعمة لها، ومتوقع أن تشهد طرابلس المزيد من المعارك، فقادة الكتائب المسلحة يدركون أن ترتيب أوضاعهم لن يكون فى مصلحتهم، لذلك لن يستسلموا بسهولة، وربما يخوضون معارك جماعية للدفاع عن وجودهم، ففرض عقوبات على بادى سريعا، عقب خرقه وقف إطلاق النار فى طرابلس، يعنى أن مرحلة جديدة من الانخراط الدولى قد بدأت ملامحها فى الظهور.