عبد المنعم سعيد

 يا إلهي، لقد مر عام كامل منذ شرفت بالدعوة إلى مهرجان الجنادرية بالمملكة العربية السعودية لأول مرة؛ وبالتأكيد لم تكن الليلة شبيهة بالبارحة، كان العالم قد تغير، وكذلك كانت منطقة الشرق الأوسط، أما التغيير الأكبر فكان في المملكة. في الدنيا كان العام عام دونالد ترمب الذي خلق موجة جديدة من «القومية» السياسية والاقتصادية ترددت أصداؤها في انتخابات الدول الأوروبية؛ وجعلت الصين هي الدولة التي ترفع شعار «العولمة».

وفي منطقتنا كان العام هو عام هزيمة «داعش» وانتهاء زمن دويلتها، وكنس مخلفاتها في العراق، ووضع سوريا تحت ضغط أوضاع جديدة تلعب فيها تركيا دوراً عسكرياً متصاعداً. في الرياض عندما وصلنا في العام الماضي كانت إرهاصات «رؤية 2030» قد بدأت ويدور حولها نقاش وحوار؛ وعند الوصول هذا العام كانت آثار «الرؤية» بادية، ولم تتغير قيادة مهرجان الجنادرية فقط، وإنما تبعه تغيير في المنهج والسياسات. وباختصار، كانت السعودية تدخل إلى القرن الواحد والعشرين من أوسع أبوابه. وفي يوم افتتاح المهرجان كانت البداية التقليدية مع سباق الهجن؛ لكن المساء شهد أوبريت «أئمة وملوك» الذي كان ملحمة رائعة للتطور التاريخي للمملكة التي كانت موسيقياً وفنياً على أعلى المستويات في الحركة وإدارة الجموع، والغناء الرائع.

مهمتي هذه المرة كانت أيضاً مختلفة، وبينما كانت المشاركة في العام الماضي تدور حول العلاقات المصرية السعودية، والعلاقات العربية الأميركية في زمن ترمب، فإنها قامت على شرف المشاركة في الاحتفاء بنيل الأمير سعود الفيصل، طيب الله ثراه، وسام الملك عبد العزيز من الطبقة الأولى. لم تكن الأقدار والحظوظ قد سمحت لي بالتعرف المباشر إلى واحد من أهم الشخصيات الدبلوماسية في العالم العربي؛ لكن أعماله ومآثره كانت تتحدث عنه، كما أن القدر شرفني بمعرفة الأمير تركي الفيصل، الذي هو علم وحده في عالم السياسة والدبلوماسية. وهكذا، شاركت الأمير تركي ووزير خارجية البحرين الشيخ خالد بن أحمد الخليفة، وكذلك عادل الجبير وزير الخارجية السعودي في الحديث عن رجل عظيم. ثلاثتهم كانوا على معرفة شخصية وعلاقات عمل وطيدة مع الراحل الكريم، ومن ثم كانت لديهم ثروة كبيرة من المواقف والقرب تجعلهم قادرين على وصف الصفات الغنية لمهندس السياسة الخارجية للملكة العربية السعودية على مدى أربعين عاماً. استطاع سعود الفيصل أن يظهر قدرة فائقة على التأقلم الناجح مع تحولات السياسة الدولية، سواء خلال الحرب الباردة، أو بعدها عندما ذاعت القوة الأميركية، أو بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 التي أعلنت الحرب ضد الإرهاب، كما تمكن من تبني مواقف ثابتة خدمت مصالح المملكة في الكثير من القضايا والأزمات التي عصفت بالمنطقة العربية بعد ذلك عندما جاء «الربيع العربي» المزعوم. وبالكثير من الحنكة والحصافة، عمل سعود الفيصل على الدمج بين هذين البعدين: القدرة على التأقلم مع التحولات من ناحية، والنجاح في صياغة مواقف سياسية تخدم مصالح المملكة من ناحية أخرى؛ وأدى هذا الدمج إلى خلق نمط محدد للسياسة الخارجية للمملكة، وصنع تحولاً مؤسسياً في صناعة القرار السياسي فيما يتعلق بالشؤون الخارجية.
كانت لسعود الفيصل ثلاثة أبعاد شاملة لشخصية عميقة الذكاء، غزيرة المعرفة، تجمع بين رحابة الصدر وعزم الرجال، وقبل كل ذلك وبعده الكثير من الحكمة. كانت له ثلاثة أوجه اجتمعت في رجل واحد، فهو الأمير، والدبلوماسي، والسياسي في آن واحد. فالأمير سعود الفيصل هو سليل الأسرة السعودية المُوحّدة لشبه الجزيرة العربية، وحامل تقاليد الملك فيصل كدبلوماسي كبير للمملكة على مدى سنوات طويلة كان خلالها وزيراً للخارجية، ثم بعد ذلك ملك أعطى للأمير حكمة كبيرة في حياته العملية، والخبرة التي اكتسبها من عمله في وزارة البترول، وعمله في وزارة الخارجية الذي قام بشكل كبير على التقاليد الإسلامية المرتبطة بدور المملكة بصفتها حاميةً للأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة والتقاليد العربية الأصيلة. فالمملكة هي حجر الزاوية في الفكرة العربية التي انتقلت منها إلى بقية الدول التي تبنت العربية لساناً ولغة. وباختصار، فإن ما جرى بعد ذلك اعتباره على أن «العروبة» لم تكن إلا تكويناً سعودياً أصيلاً بالجغرافيا والتاريخ.
إن التقاليد السعودية التي انبثقت عن بنية الجزيرة العربية والجغرافيا السياسية الخاصة بها، والتقاليد الملكية التي تطورت، سواء في الدولة السعودية الأولى أو الثانية أو الثالثة مع تأسيس الملك عبد العزيز للمملكة، إضافة إلى الجغرافيا الاقتصادية التي جاء بها البترول، إلى جانب الجغرافيا السياسية التي أتت بالعروبة الأصيلة، مكّنت المملكة من أن تواجه وتبحث وتعمل من أجل الاستقرار في عالم متصارع وإقليم مضطرب. الأمير لم يكن يبني على فراغ، وإنما على أصول صلبة ضاربة في تربة المملكة بقدر ما كانت ممتدة بالعروبة إلى الإقليم، وبالإسلام إلى العالم. وكان الأمير جاهزاً لهذه العلاقات المعقدة والمركبة؛ فقد كان يتقن سبع لغات للتعامل مع الدنيا بقدر ما كان عاشقاً للطبيعة والبراري والصيد ورحلات السفاري.


كان سعود الفيصل كما قال مؤرخه فهد بن حسن دماس: «يتمتع برصانة ووقار، ولغة راقية بأكثر من لسان، ومعرفة واسعة بالشؤون السياسية الإقليمية والدولية، وبالتاريخ ورجالاته ودروسه، وخبرة متراكمة من ميدان العمل الدبلوماسي طوال أربعة عقود شهدت أحداثاً ومتغيرات أعادت صياغة خريطة العالم الجيوبوليتكية التي رسمتها الحرب العالمية الثانية. فهو الرجل في لحظة الفعل، يمتلك هندسة التعامل مع الأزمات المختلفة وإدارة العلاقات المتشعبة للمملكة العربية السعودية». ووصفه الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية وزير الخارجية المصري الأسبق عمرو موسى بأن الدبلوماسية العربية «خسرت كثيراً بوفاة وزير الخارجية السابق الأمير سعود الفيصل»، ووصف الفيصل بأنه «صاحب مدرسة الدبلوماسية العاقلة والآراء الرصينة القوية، وكان قوياً حين يحتاج الموقف إلى قوة، وإنساناً حين يحتاج الموقف إلى إنسانية، ودبلوماسياً حين يحتاج الموقف إلى دبلوماسية، وخبيراً إذا احتاج الأمر إلى رأي خبير». مؤكداً أنه «أضاف الكثير إلى الدبلوماسية العربية والسعودية؛ فوجوده كان على الدوام يمثل صوت العقل والرصانة، إضافة إلى صفاته الشخصية والإنسانية الأخرى». وقال: «إن سعود الفيصل من أفضل الرجال الذين قابلتهم في حياتي المهنية على مدى الوقت الطويل الذي قضيته في العمل الدبلوماسي العربي والمصري»... كما وصف بأنه وجه الدبلوماسية اللين soft diplomatic face للمملكة، فضلاً عن كونه القوة المحركة وراءها.
قاد الأمير سعود الفيصل الدبلوماسية السعودية إلى العمل في ثلاثة محاور، أولها محور الخليج الذي قاد إلى إنشاء مجلس التعاون الخليجي لكي يبنى على روابط التجانس بين دول ست من أجل حمايتها من التيارات السلبية ذات النزعة الثورية على الطريقة العراقية، أو تلك الرجعية على الطريقة الإيرانية. وثانيها التضامن العربي في محاور أساسية تقوم على علاقات ثنائية مع الدول العربية بهدف تحقيق الاستقرار في المنطقة العربية وقدرتها على مواجهة قضايا العالم العربي مثل القضية الفلسطينية، والتغيرات الطارئة على الدول العربية لمقاومة الشيوعية، والتعامل الحكيم مع القوى الكبرى في العالم من الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة الأميركية. وثالثها محور المملكة العربية السعودية ومأسسة عملها الدبلوماسي وسياستها الخارجية. كانت لسعود الفيصل إنجازاته العظيمة على كل هذه المحاور فصّلتها في الجنادرية، رحم الله الأمير سعود الفيصل، وأثابه الجنة، وأعان أمتنا على فقدان هذا الصرح العظيم.