طيب تيزيني

كنا في المقالة السابقة قد تناولنا مشروع النهوض والتقدم العربي.. في بعده السياسي، ولاحظنا كم هو معقد وصعب أن نتكلم عن بعده السياسي هذا، بعد أن كنا تناولنا المسألة إياها في سؤاله المنهجي، أي ذلك السؤال الذي غالباً ما يكون معقداً ومتعدد الأوجه بسبب مجموعة من الصعوبات؛ منها تداخل أبعاد المشروع المذكور وتداخلها مع أبعاد أخرى من حقل آخر، إضافة إلى شُح في حضور المادة المطلوبة بعد أزمنة متعاقبة، بسبب الإهمال أو الضياع وعدم الاكتراث بذلك كسلاً أو خوفاً.. إلخ. وكان ذلك يمكن أن يحدث خصوصاً في أيام الاضطراب، مع ضعف في التكوين المعرفي والمنهجي، وأسباب أخرى يبقى البحث بمقتضاها مفتوحاً على احتمالات كثيرة.

ومن أجل ضبط الموقف وتسهيل وضع اليد على حيثياته، نعود للقول بأن بداية نظرنا في المسألة كانت قد انطلقت من البعد السياسي، الذي عادة ما يشكل ضبطاً للبعد الثقافي عبر مؤسساته المتعددة والصارمة عادة، وهذا ما نظرنا إليه على أنه بحث في بنية البُعد السياسي، ما يشي بالتركيز على تاريخية هذه البنية، بقدر ما يضع الأخيرة في مآلها البنيوي، وبذلك نكون قد عملنا على ضبط ما نحن بصدده، أي البعد السياسي لمشروع النهوض والتقدم العربي. إنها عملية تفكيك وإعادة بناء في آن واحد، إنما على صعيد البُعد الثقافي لذلك المشروع. وهنا تبرز الصيغ التالية للمشروع العربي في صيغته الثقافية:

(1) حرية الخطاب الثقافي العمومي في المجتمع، وضمان حمايته وتطويره، (2) حرية التعليم بكل درجاته، (3) حرية القضاء في معالجة المسألة الثقافية، (4) حرية الثقافة الإبداعية وغياب الاحتكام في مشكلاتها إلى منظمات تابعة للنظام الحاكم وملحقاته، (5) التطوير الممنهج والعميق للجامعات الوطنية ومراكز البحوث.

وفي هذا السياق ينبغي التركيز على ضرورة الاجتهاد العقلاني المدني للنصوص الدينية، وترقية ذلك من المستوى الشعبي إلى المستوى النخبوي، مع التأكيد على مبادئ العقلانية والأخوة الإنسانية والتسامح، إلى جانب تركيز خاص على الهوية الثقافية المفتوحة، وعلى الاجتهاد في النصوص الدينية عبر قواعد مرنة.

وهنا أيضاً، تبرز الفكرة المنهجية الحصيفة المتمثلة بالتفكير الفلسفي العقلاني والمفتوح وفق قواعد التأسيس الفلسفي عموماً، ونعني بها تحديداً قضية التجادل بين المطلق والنسبي، ونشير بها إلى ذلك الضابط المعرفي المحدد للعلاقة بين الفكرين الفلسفي والديني. وهذه الصيغة نادراً ما أثارت الفضول لدى الفلاسفة والباحثين فيما يتصل بالعلاقة بين التأويل الديني والتأويل الفلسفي، والنتائج المترتبة على ذلك في صيغها المتوازنة والفاعلة.

وتنطلق العلاقة بين المنظومتين الدينية والفلسفية، من الحديث النبوي الشريف القائل بأن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أين الله؟ فكان جواب النبي: «الله موجود حيث تراه». كانت هذه الإجابة كافية لضبط المسألة وفق الرؤية العقلية البسيطة للأعرابي السائل، بقدر ما استجابت للدقة المعرفية، ملخصة في ثناياها الجدلية بين المطلق والنسبي.

ولعل ذلك يدخلنا في لغة العصر: الجميع مؤمنون، ولا يمكن التشكيك في إيمانهم لصالح آخرين. وبالتدقيق، نجد أن هذا نمط من الديمقراطية التي تجعل المؤمنين متساوين كأسنان المشط، يسقط نهائياً نزعة التكفير والاستعلاء المقيتة.

إذن، كل المؤمنين متساوون في الحالة الأولية الحاسمة، ما يجعل هذه المساواة متماهية مع المساواة بين الأنا والآخر المؤمن، وهذه نتيجة ملفعة بالأبعاد المعرفية والسياسية، ومن شأنها إنهاء الزعم بوجود من يملك «الحقيقة المطلقة» كلاً ونوعاً.

إن الظلامية الدينية والأيديولوجية العامة تلوح الآن في العالم العربي، وهي تسعى تقسيماً وتلفيقاً وتزييفاً.