عبد المنعم سعيد
الموقف السياسي والعسكري في الشرق الأوسط لا يكفّ عن التغيّر، ورصد هذه التغييرات ليست أمراً سهلاً، لأنه كثيراً ما يختلط الجديد بالقديم، ويصعب التمييز بين العداء والخصومة والتنافس. مثل ذلك ليس جديداً على المنطقة، ولكن واجب المتابعة هو رصد ما يحدث أياً ما كان عليه من التباس وارتباك. الحالة الشرق أوسطية التي تلت «الربيع العربي» المزعوم قامت سياسياً واستراتيجياً على أساس مفهومين:
أولهما أن التناقضات والصراعات داخل الدولة أشد وأكثر دموية من أي صراعات إقليمية أخرى. انتشرت الحرب الأهلية في أكثر من دولة، سوريا والعراق واليمن وليبيا أمثلة معروفة، وفي بلدان أخرى كانت التوترات حادة استلزمت إما تدخلاً كما حدث في البحرين وإما تولي القوات المسلحة بدفع من الجماهير إدارة السياسة كما حدث في مصر. في كل الأحوال كانت المشاهد للعنف والتفاعلات الحادة داخل الدولة ذات طبيعة سياسية واقتصادية وطائفية ومذهبية، وما جاء من خارجها كان اعتماداً على أطراف داخلية قادرة على التعبئة والحشد والمواجهة. وثانيهما أن الدولة، ربما نتيجة ما سبق، تقلصت فاعليتها كفاعل أساسي في العلاقات الإقليمية، وظهر إلى جانبها فاعلون ليسوا بدول مثل جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، وتوابعها من «القاعدة» حتى «داعش». السمة الأساسية لهذه «الفواعل» أنها كانت تعمل عبر الدول، ولها تصوراتها الخاصة لفكرة الدولة، حتى إن أحدها -«داعش»- أقام «دويلة» عبر الحدود العراقية السورية متحدياً في ذلك الجغرافيا السياسية التي استقرت في المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. المدهش أن هؤلاء الفاعلين الجدد، لم تفلح وحدة العقيدة والتشدد الآيديولوجي بينهم في منع صراعات دموية جرت بين «القاعدة» و«داعش»، وبين كليهما وبين «الإخوان المسلمين».
ما جرى في الشرق الأوسط أن الحروب الأهلية حدث لها ما سُمي «تراجع التصعيد» أحياناً، و«التهدئة» أحياناً أخرى، و«وقف إطلاق النار» أحياناً ثالثة، وفي جميعها تقريباً بدأت وجرت عملية دبلوماسية معقّدة تداخلت فيها الدول الإقليمية، وكلٌّ من الولايات المتحدة وروسيا، وكذلك الأمم المتحدة. وعلى الجانب الآخر فإن الفواعل الإرهابية جرى اعتصارها، ففقد الإخوان المسلمون قاعدتهم الأساسية في مصر، وباتت القاعدة مطاردة في مناطق عدة، أما «داعش» فقد انتهى إلى هزيمة كاملة أسقطت عرش دولته، قبل أن يشتد ساعدها. كل هؤلاء الفاعلين لم يُقْضَ عليهم، أو يتم استئصالهم، فلا يزالون عاملين في الساحة الإقليمية، ولكن ما جرى أن الدول تقدمت مرة أخرى لكي تثبت نفسها من جديد. انتصار العراق على «داعش» بمعاونة الولايات المتحدة أعطى الدولة العراقية نفساً جديداً مكّنها من إدارة الأزمة مع الأكراد عندما عرضوا استقلالهم للاستفتاء العام وجرت الموافقة عليه، ولكن سرعان ما فشلت المحاولة، ورجع الأكراد إلى مائدة المفاوضات. دولة بشار الأسد السورية جرى استبعادها من الجامعة العربية، وكان موضوع الإطاحة بحكم البعث جزءاً أساسياً من الأطروحات والمفاوضات، عادت مرة أخرى بالعون الروسي إلى الواجهة مع الداخل والخارج، ولأول مرة اتفق الأميركيون والروس على بقاء الدولة السورية كدولة ذات سيادة، ولكن شكلها وفصلها هو قضية أخرى، وموضوع للتفاوض.
الدول الإقليمية رفعت من درجات تداخلها العسكري في الإقليم؛ وخلال السنوات الماضية فإن إيران اعتمدت، إلى حد كبير، على فاعلين عابرين للحدود مرة باسم العقيدة الشيعية، ومرة اعتماداً على طوائف ونِحَل، وجرى ذلك مع «الحشد الشعبي» في العراق، و«حزب الله» في لبنان وسوريا، والحوثيين في اليمن. الآن فإن إيران لم تعد فقط تقدم المعاونة والتأييد لفواعل محلية، وإنما تتدخل بقوات الحرس الثوري لخلق ممر عسكري لها عبر الأراضي العراقية والسورية واللبنانية لكي تعطي لنفسها حدود تماسٍّ مع إسرائيل. الغرض من هذا التحرك ليس فقط اللعب بالقضية الفلسطينية مرة أخرى، وإنما خلق مساحة ضغط مقابل على الولايات المتحدة لكي يعتدل منهجها تجاه إيران والاتفاق النووي معها. تركيا على الناحية الأخرى بدأت تدخلها العسكري في أثناء الحرب مع «داعش»، حيث خصصت بعضاً من قوتها لإضعاف القوات الكردية التي تقاتل «داعش» أيضاً، ولكنها في ذات الوقت توفر مساحات آمنة وإمدادات لحزب العمال الكردي الذي تعتبره تركيا منظمة إرهابية! ومع هزيمة «داعش» فإن الجغرافيا السياسية لتركيا جعلتها تتخذ منهجاً تدخلياً عسكرياً وعدوانياً أيضاً من أجل ما يتصوره رجب طيب إردوغان الأمن القومي لتركيا. من هنا كان التدخل التركي في عفرين، وفي الوقت نفسه التدخل في موضوع اكتشافات الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط برفض اتفاقية ترسيم الحدود المصرية القبرصية، والمنع بالقوة لشركة «إيني» الإيطالية من الاستمرار في اكتشافاتها النفطية في المنطقة.
تدريجياً عاد الشرق الأوسط إلى ما كان عليه من قبل، حيث تسيطر هموم الجغرافيا السياسية على قضية الأمن في الإقليم، فالحرب الأهلية اليمنية لم تعد حرباً داخلية، وإنما هي نتيجة تدخل إيراني تتصدى له قوات التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية. إسرائيل من ناحيتها وبعد سنوات من السعادة لما يجري لدول المنطقة حولها، وجدت نفسها فجأة في مواجهة سوريا مختلفة عما اعتادته، ومن هنا كانت المواجهة العسكرية لطائرة «درون» إيرانية، ثم قصف قاعدة عسكرية إيرانية، وبعدها سقوط طائرة إسرائيلية. القضية في سوريا لم تعد جبهة النصرة أو «داعش» أو الإخوان المسلمين، وإنما صراع ومواجهة إسرائيلية إيرانية على من يهيمن على سوريا أولاً ومن ورائها لبنان. مصر من ناحيتها اختارت طريقة أخرى لاستخدام القوة العسكرية تقوم على إرسال الرسائل الأمنية الواضحة التي تعطي إشارات وخطوط حمراء على الأقل خلال هذه المرحلة. وكانت الحملة العسكرية الشاملة «سيناء 2018» فرصة إرسال الإشارة أن مصر لا فقط تقوم بتصفية فلول الإرهاب في سيناء تمهيداً لتعميرها؛ ولكنها أيضاً لن تقبل بأي تدخل إقليمي تركي في واقع جرى تأسيسه على أساس قانون البحار، والاعتراف الدولي بالدولة القبرصية. كان قيام القوات البحرية المصرية المشارِكة في التأمين البحري لعملية «سيناء 2018» بمناورات جرى فيها استخدام الصواريخ سطح - بحر، وبحر - بحر، كرسالة لمن يهمه الأمر في أنقرة.
كل هذه التحركات الإقليمية تقوم في الأساس على الجغرافيا السياسية للإقليم، في ظل الظروف التي أصبحت قائمة في 2018، حيث تداخلت وتشابكت قضايا نتائج الاتفاق النووي الإيراني مع انتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة له شكوكه في النيات الإيرانية. وفي نطاق آخر جرى التشابك مع حقيقة اكتشافات الغاز في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، بل إن حقل «ظُهر» الواقع في المنطقة الاقتصادية المصرية بدأ الإنتاج بالفعل. الجغرافيا السياسية بكل توابعها الأمنية والاقتصادية عادت مرة أخرى، وأعادت تعريف المصالح الوطنية للدول، وجعلت الشرق الأوسط يختلف في العام الحالي 2018 عما كان عليه منذ 2011. تعالوا ننتظر ونرَ ما سوف يستجد سياسياً وعسكرياً!
التعليقات