إيفان كراستيف
في أكتوبر الماضي، نشر مجموعة من المفكرين المحافظين المرموقين من أنحاء أوروبا بياناً بعنوان «أوروبا التي يمكننا الإيمان بها». والبيان، وفق كثير من المقاييس، وثيقة رصينة مكتوبة بشكل جيد ومزيج من خطاب حركة التحرر القومية من الأيام المجيدة لتفكيك الاستعمار ودليل إرشادي لمتحف تاريخي. والانطباع الذي يخرج به القارئ من هذا البيان هو أن محافظي أوروبا مناهضون للتوجه الإمبراطوري، حيث إنهم يشتكون أن الاتحاد الأوروبي «إمبراطورية من المال واللوائح»، ومناهضون للاستعمار، فهم يعتبرون الهجرة دون احتواء استعماراً، كما يدافعون عن الدولة الأمة من باب احتقارهم أفراد الصفوة المؤيدين للتكتل الأوروبي الذين يرون أن «الرؤى الباطلة التي يرضون بها أنفسهم عن مستقبل مثالي تعميهم».
وصدق أو لا تصدق، تشبه ثورة أهل البلاد الأصليين تلك انتفاضات الجناح اليساري عام 1968. ومثل الاحتجاجات في ذاك الوقت، لا يحاول هؤلاء المثقفون ببساطة كسب انتخابات، بل تغيير الطريقة التي يعيش ويفكر الناس بها. لكن ما يريدونه تحديداً هو تدمير تركة عام 1968 في أوروبا. والتصور المحوري الذي حرك احتجاجات عام 1968 كان هو «الاعتراف». والاعتراف بالنسبة لهذا الجيل كان يعني في الأساس أنه يجب أن يكون لأولئك الذين دون نفوذ سياسي الحقوق نفسها التي يتمتع بها أصحاب النفوذ. والكلمة المحورية للثورة الحالية هي «الاحترام»، وبهذه الكلمة يقول متمردو القرن الحادي والعشرين، إن حقيقة أن لنا جميعاً حقوقا متساوية لا يغير من حقيقة أن السلطة السياسية لدينا مختلفة.
وإذا كان محتجو عام 68 منشغلين بحقوق الأقليات العرقية والدينية، فقد كان أحد شعاراتهم: «إننا جميعا أقلية»، فإن ثورة أهل البلاد الأصليين الحالية منشغلة بحقوق الأغلبية. وإذا كان تحرك عام 68 يتحدث عن اعتراف الدول بآثامها- تذكروا المستشار فيلي برانت راكعاً عند نصب انتفاضة جيتو وارسو- فإن زعماء أهل البلاد الأصليين منشغلون حالياً بزعم البراءة المقدسة لأممهم. وأبرز شاهد على ذلك، هو القانون البولندي الذي صدر مؤخراً والذي يجرم أي إشارة لضلوع بولندي في الهولوكوست. والأحزاب الشعبوية من اليمين اليوم هي أحزاب ثقافية قبل كل شيء. وتنظر إلى السلطة، باعتبارها فرصة لتشكيل الهوية القومية لتصحيح السرد التاريخي. وأعضاء هذه الأحزاب لا يهتمون كثيراً بتغيير نسب الضرائب أو برامج الرعاية الاجتماعية، بل الأهم كثيراً بالنسبة لهم هو كيف ترتبط المجتمعات بماضيها، وكيف يجري تثقيف الأطفال. والجدل بشأن الهجرة بالنسبة لها هو قبل كل شيء فرصة لتحديد من ينتمون ويستطيعون الانتماء للمجتمع السياسي القومي. وبينما تأخذ ثورة أهل البلاد الأصليين في بعض البلدان صورة الصراع بين الليبراليين والمحافظين، فإن هذه الثورة تمثل على مستوى الاتحاد الأوروبي صراعا بين غرب أوروبا وشرقها. وأكثر تحديداً فإنها تمثل صراعاً بين صيغتين من الاتجاه المحافظ.
والاتجاه المحافظ في أوروبا الغربية يرجع إلى ما بعد عام 1968. وقد استوعب التوجه المحافظ بعضاً من التوجه التقدمي الذي شكّل الغربَ في نصف القرن الماضي، مثل حرية التعبير والحق في الاختلاف، بينما رفض ما رأه تزيدا من حركة عام 1968. وفي أوروبا الغربية، يستطيع الزعماء السياسيون والنشطاء البارزون من أقصى اليمين، أن يعلنوا عن مثليتهم الجنسية دون أن يكون في هذا ما يثير الدهشة. أما النسخة الشرقية الأوروبية من التوجه المحافظ، فتمثل صيغة أكثر تشددا لفكرة أهل البلاد الأصليين. وهي صيغة ترفض الحداثة ككل، وترى التغيرات الثقافية في العقود القليلة الماضية، باعتبارها محاولة لتدمير الثقافات القومية لمجتمعات وسط وشرق أوروبا.
ولا يوجد لهذه الرؤية متحدث باسمها أفضل من رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان. فقد أعلن أوربان الشهر الجاري قائلاً: «يتعين علينا أن نعلن أننا لا نريد أن نكون متنوعين، ولا نريد أن نكون مختلطين. لا نريد أن يختلط لوننا وتقاليدنا وثقافتنا القومية مع أولئك الآخرين. لا نريد كل هذا. ولا نريد أن نكون بلداً متنوعاً. نريد أن نكون على الشاكلة التي كنا عليها قبل 1100 سنة في حوض كاربات». ومن الملحوظ أن رئيس الوزراء المجري يتذكر بوضوح شديد ما كان يعنيه «مجري» قبل 11 قرناً! لكن هذا الموقف يوضح الاختلاف بين رؤية الشرق للتوجه المحافظ ورؤية الغرب لهذا التوجه. في الغرب، يعتقد المحافظون أن مجرد الحصول على جواز سفر ألماني أو نمساوي ليس كافياً لأن يجعل المرء ألمانياً أو نمساوياً، بل يجب أن يتبنى الثقافة المهيمنة. وفي وجهة نظر أوربان لا يستطيع المرء أن يصبح مجرياً ما لم يكن ولد مجرياً.
وهنا تكمن معضلة ثورة أهل البلاد الأصليين في أوروبا. فقد تحول شرق أوروبا وغربها إلى اليمين في السنوات القليلة الماضية، لكن بدلاً من أن يساهم هذا في وحدة أوروبا، جعل هذا التحول الفجوة بين شرق القارة وغربها أوسع من ذي قبل. وبينما يطعن الأوروبيون الغربيون في مزايا التنوع، فإنهم يعيشون في مجتمعات متنوعة ثقافيا. وعلى الجانب الآخر، يعيش الأوروبيون في شرق ووسط القارة في مجتمعات متجانسة عرقياً ويعتقدون أن التنوع لن يحدث لهم. والمحافظون في الجزء الغربي من أوروبا يحلمون بقارة تصيغ فيها الأغلبية المجتمع، وفي الشرق، يحلم المحافظون بمجتمع من دون أقليات وحكومات بلا معارضة.
وبينما يشترك زعماء سياسيون- مثل أوربان الذي يريد أن يعود ببلاده إلى 11 قرناً إلى الوراء وسباستيان كورتس رئيس الوزراء النمساوي المحافظ الجديد البالغ من العمر 31 عاماً- في بعض وجهات النظر حين يتعلق الأمر بالتحكم في الهجرة أو ضعف الثقة في التوجه المحافظ القديم. لكنهم ليسوا حلفاء طبيعيين حين يتعلق الأمر بمستقبل الاتحاد الأوروبي. والواقع أنهم يختلفون بالطريقة نفسها التي اختلفت بها غرب أوروبا عن شرقها عام 1968.
*رئيس «مركز الاستراتيجيات الليبرالية» في فيينا
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
التعليقات