سمير عطا الله
يعبر الفن حدود الدول والبشر مثل الريح. يتجاوز الأحزاب والعقائد ومراكز الحدود ومخافر الشرطة ورقيب المطبوعات وأهواء النقاد. ولذلك، تخافه الأنظمة أكثر مما تخشى فرقة المدرعات. ضمن العصر الجاهلي ذكره من خلال شعر عنترة، لا من خلال الشهود على معاركه. ولم يترك امرؤ القيس أعمدة أو قلاعاً؛ بل أبياتاً من الشعر تصف مواقع ذابت في الرمل وزالت في الحرّ.
ينتقل شكسبير من عصر إلى عصر، لا يحفل بحداثة أو تجديد؛ بل يحسده المجدّدون ويتمنون شيئاً من تهدّل اللغة بين يديه. وفي ذروة الحرب الباردة، ظل شكسبير بديع المسارح في موسكو، وظل تولستوي أمير الرواية في الغرب.
لم يتوقف همنغواي عند أي مفتش؛ هو يتنقل على بساط الريح بين الشرق والغرب. وكان غابرييل غارسيا ماركيز أقرب الناس إلى فيدل كاسترو، ولكن أيضاً الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة. ونظر الأميركيون بازدراء إلى «جمهوريات الموز» في أميركا اللاتينية؛ لكنهم غنوا شعراءها وهاموا بآدابها.
كتب شكسبير بلغته، وفيكتور هيغو بلغته، ودوستويفسكي بلغته، وبابلو نيرودا بلغته، وسيرفانتس بلغته، وطاغور بلغته، وناظم حكمت بلغته، ولكن العالم أجمع قرأهم بلغة واحدة. وفي ذروة الخلاف السوري العراقي ومنع الشعبين من السفر، أو حتى التحليق في سماء البلدين، ظل بدر شاكر السياب يسامر رواد مقاهي دمشق. وعندما طرد عباقرة العرب مصر ومنعوا ذكرها، ظل شيء منها يملأ بيوت الناس أو مدارسهم أو مجالسهم.
لذلك تتعادى الشعوب بكل الوسائل، وتتصالح بالفنون والرياضة والمعارض الفنية، وكل ما هو غير سياسي، ويوم كانت سوريا السياسية الأكثر عزلة في العالم العربي، كان نزار قباني في كل بيت ومدرسة، من موريتانيا إلى العراق. وكانت كتبه ممنوعة في بعض البلدان، فكان المسافرون ينسخونها على دفاتر مدرسية، ولا أعتقد أن قصيدة قُرِئت في التاريخ ووزعت وحُفظت، مثل قصيدته «بلقيس» التي كتبها في رثاء زوجته، يوم قُتلت مع من قُتل في تفجير السفارة العراقية في بيروت.
كان أسهل شيء يُهرَّب من وراء قضبان السجن في مصر، قصائد سيد إمام وأحمد نجم «الفاجومي». فقد كان يحفظها غيباً السجناء والحراس معاً. وفي النهاية اكتشفت الحكومة أن الأسلم لها أن يخرجا من السجن؛ حيث يكون الانتشار أقل.
تُنشر الحضارات دون إذن من أحد. وفعل الكتاب المرخص أقل بكثير من أثر الكتاب الممنوع. والأنظمة لا تتكل عادة على الرقيب؛ بل على أننا شعب لا يقرأ في أي حال.
التعليقات