عبدالله بشارة

أهم أعمدة القوة في بقاء الشعوب وفي متانة الدول هو الحفاظ على جدارها الداخلي من التساقط، وحمايته من شظايا الزمن، ومنع الحالمين الساعين للتغيير عبر اجتهادات يرون فيها أسلوباً لتحقيق شيئا يرون إدخاله في جسم الدولة وفي مكوناتها المتوازنة وفي عقيدتها الاجتماعية، هذه حالة تشهدها الكويت بشيء من الهدوء المرسوم، ضماناً لتمرير المرغوب فيه دون ضجة تثير الحريصين على سلامة الكيان المتوارث.

ومن أهم الكتائب التي تسعى للتسلل إلى الكيان الاجتماعي القائم هي تجمعات السلف ومجموعة حدس وتيار الانغلاق، وتلتقي هذه العناصر داخل مجلس الأمة بأسلوب التحدي للوزراء بتهديد المساءلة، مستفيدة من غياب الهمة الحكومية في التصدي، رأينا هذه الحالة مؤخراً في الاعتراض على حق المرأة في اعتلاء منصة البورصة، تابعناها في حفل المرأة في حديقة الشهيد التي غاب عنها الوزير المختص، مع إلغاء محتويات البرنامج المعد، ومر الموضوع وسط عدم مبالاة، رسمياً واجتماعياً، وسُجل فوز لتجمع الاعتراض النيابي الناجح في تصغير دائرة الانطلاق النسائي الكويتي نحو المساواة.
قد تكون هذه الخطوة متواضعة لا يعيرها الرأي العام اهتماماً، لكن العنصر الأهم ليس في حجمها وإنما في الاسترخاء الاجتماعي الذي رافقها، وأكثر، في دورها بمضاعفة ثقة أهل الاعتراض بمستقبل خططهم وبما كشفته من حالة يتسيدها غياب المتابعة وانعدام الرصد للجهود الخفية التي تبذلها الجماعات لإضعاف الدولة المدنية.
ففي الواقع أن الأهداف التي تسعى لها قوى المعارضة هي بناء صيغة جديدة للمجتمع الكويتي تلغي الصيغة التي استأنسها المجتمع منذ ولادة الكويت بكيان محدد وبهوية تحتوي على المألوف والمقبول من قيم وضوابط وخطوط التواصل بين أبناء المجتمع.
والمقصود من تحركات المعارضة هي إصابة صيغة الدولة المدنية التي تجسدت في الدستور، وتفكيكها بخطوات بطيئة، مع حرص على النمو مع مرور الزمن، خصوصًا أن الهدف ليس محصورًا في صيغة المحتوى الاجتماعي، وإنما يتعداه إلى اختصاصات تمسّ عناصر السيادة في الدولة.
نتابع الحشد البرلماني نحو التجنيس وفرض كوتا معينة بأعداد سنوية مع توسيع أبواب نفاذ البدون إلى الجنسية بتجاوزات على اللوائح التي وضعت قواعدها اللجنة الخاصة بموضوع البدون مع نقد يتراكم ضد رئيس اللجنة المواطن صالح الفضالة، واسمه ينطق بضميره، ويرافق النقد الرغبة في إغلاق الهيئة بكل مسؤولياتها وتحويلها إلى فرع ضائع في وزارة الداخلية.
ولا تكتمل خطة التغيير، دون التطرق إلى القضاء والاعتراض على أحكامه لأن بعض المناصرين تعرضوا إلى أحكام لا تتلاءم مع تمنيات أبطال تحويل الكويت إلى دولة دينية تودع فيها نزعة التسامح وتنهي الانفتاح الداخلي والتآلف المجتمعي المسكون بالاعتدال الأخلاقي النابع من روحانيات الإسلام.
التعرض للثوابت التاريخية في حماية الهوية والتشهير بالمرتكزات لا يمكن أن يكون موضوعاً للاستعراضات البرلمانية، فهذه عنوان الاستقرار والاطمئنان، ولا فائدة من مكانة الدستور دون إبراز المكانة الفريدة للدولة المدنية التي رافقت حياة الكويتيين منذ ثلاثة قرون.
كما لا يمكن أن نستنجد بمقولة الكويت أرض المهاجرين، فحتى الخمسينات من القرن الماضي لم تكن على أرض الكويت أعداد كبيرة من مهاجرين ووافدين، كان أسطول الكويت البحري من مواطنين قيادة وبحارة وصناعة وتجارة..
هذه حقائق غرسها التاريخ في ملفاته، فالأعداد الهائلة من الوافدين تدفقت مع حاجة الوطن المتطور إلى الخبرات والخدمات في كل جوانب الحياة.. لكن تبقى الثوابت التي تحدد هوية الوطن، ونعرف بأن الحماس النيابي للتوسع في التجنيس وليد السعي لكسب قواعد جديدة تؤمِّنُ «ديمومة العضوية» وقد ظهر ذلك بوضوح في الجلسة الأخيرة للبرلمان الذي صوت لتجنيس أربعة آلاف، حيث تسيدت مشاعر الابتهاج أجواء القاعة، مع صيحات بإدخال البدون للانضمام إلى قوات الدفاع في تخلٍ عن مبدأ المواطنة.
من المفيد قراءة التاريخ، ليقف القارئ على أصول المماليك وظهور محمد علي باشا وآخرين ممن أتوا بغفلة من الزمن.