محمد المختار الفال

الاتهامات المتبادلة بين «الحرس الثوري» ومؤسسة الرئاسة الإيرانية المتصاعد، هذه الأيام، وجّه إلى صراع داخلي «منضبط» يتفاعل منذ سنوات، ما بين الذين يصرون على استمرار «الحال الثورية» والذين يرون أنها استنفدت أغراضها وفقدت طاقتها، وعليها تسليم القيادة لـ«الدولة» لتستثمر المنجز في سوق السياسة، كي تستطيع تأسيس علاقات مع المجتمع الدولي.


وعلى رغم أن أصوات أنصار «الدولة» تزداد ارتفاعا، وقواعدهم تتكاثر اتساعا، فإن سطوة «الثوريين» ومصالحهم ما زالت هي الغالبة، ويعظم تأثيرها برعاية المرشد الأعلى، الذي تتضاءل هيمنته بالانتقال إلى مشروع «الدولة».

وهناك من يرى أن الانتقال من الثورة إلى الدولة يفرضه منطق السيرورة، وأن إيران مآلها إلى هذه الحتمية، لكن لا تبدو في الأفق دلائل قوية في هذا الاتجاه، على رغم الشكل الخارجي والهياكل التي تقوم عليها مؤسسات المجتمع وسعيها إلى الدخول في تفاهمات إقليمية ودولية، فما يزال «العنف الثوري» وطاقاته وما يدور حوله من منافع يدفع باتجاه المحافظة على حيويته وقدرة حركته. وهذا يفضي إلى تقدير أن إيران ماضية في مشروعها، الذي يمثل فيه «تصدير الثورة» الدافع والمحرك والمبرر والجالب للأنصار والمتفاعلين.

ولا بد من التقرير أن من حق إيران، وغيرها، أن تشكل رؤيتها وترسم دورها الإقليمي والدولي، وأن تعمل على تحقيق أهدافها بالوسائل التي لا تهدد أمن الآخرين، ومن المتفق عليه أن «القوة الناعمة» عمل مشروع إذا لم يتطور إلى «قوة خشنة» تهدد أمن واستقرار الآخرين. وبهذا المنطق فإن من حق الآخرين أن يعرفوا ما يجري حولهم، ليدركوا أبعاد ما يفعله الخصوم، وبخاصة عندما تتحول قواهم الناعمة إلى رأس حربة في مشروع هيمنة. ومن يرصد التحرك الإيراني يدرك أن وراءه أهدافا سياسية ومصالح إقليمية كان يمكن أن يتفهمها الآخرون لو ظلت في حدود المنافع الاقتصادية والتواصل الثقافي والتنسيق السياسي، لكن حين تتحول إلى «مشروع هيمنة» يهدد أمن الآخرين فإن الأمر حينئذ يأخذ بعدا مغايرا.

وهنا يبرز سؤال من نوع؛ لماذا تريد إيران تصدير ثورتها إلى الجوار العربي؟

وهو سؤال يمهد لكثير من الاجتهادات في سبيل الإجابة عليه، وتتنوع تلك الاجتهادات، بحسب زاوية التناول أو منطلق الفرضية التي تتمحور حولها المناقشة، فربما تتجه النظرة إلى نزعة نشر المذهب في أماكن لم تعرفه من قبل، بغض النظر عن العوامل المحيطة، وقد تكون نوازع «الثأر والانتقام» من العنصر العربي هي التي تدفع «المجموعة الفارسية» المتحكمة بالقرار السياسي إلى استغلال الفراغ في المنطقة العربية لتحقيق أهدافها، كما قد تتجه اجتهادات أخرى إلى أن العوامل الاقتصادية والجيوسياسية هي المحرك الأساس، وكلها اجتهادات تجد من الحيثيات ما يبرر أطروحتها ويمنطق تحليلها.

وهذه السطور تفترض أن «هاجس الأمن» هو الذي جعل «الثوريين» في طهران يرفعون شعار «تصدير الثورة» منذ اليوم الاول، أي تصدير القلق والتوتر وعدم الاطمئنان إلى المحيط الخارجي، ولمواجهة الشعور بأنهم مهددون من الداخل، فباتوا يعتقدون أن أمنهم لا يتحقق في ظل الاستقرار الذي يتيح للشعب الإيراني فرصة تأمل أوضاعه ومقارنة واقعه بما يماثله من الشعوب المتمتعة بثروات أوطانها، وتأسس على هذا الشعور القلق ما يمكن اعتباره «نظرية أمنية» ملخصها: أن أمن إيران له علاقة عكسية مع أمن الجيران (!!) أي أن أمن «إيران الثورة» لا يتحقق إلا بإثارة القلاقل والاضطرابات من حولها، وهذه النزعة القلقة تجعل عموم الإيرانيين تحت «هاجس» الخوف من الخارج، الذي تصوره آلة الدعاية وكأنه في حال توثب للانقضاض على هذه التجربة.

هذه «الفرضية» قد تعين على تفسير جوانب من الإصرار على تصدير الثورة، الذي اتخذ صيغا ووسائل عدة، منها: تخيره مناطق في العالم الإسلامي لم تعرف التشيع وليس لديها سابق معرفة بالفروق والخلافات العقدية والاحتكاكات التاريخية معه، وفتح أبواب البعثات لأبناء تلك المجتمعات من ذوي المعرفة الأولية بتعاليم الإسلام وتاريخ صراع المذاهب، واستعطاف مشاعرهم من باب محبة آل البيت، التي تشكل قاسما مشتركا بين جميع المسلمين، وإن حاولت الدعاية الإيرانية «انتحال» الدفاع عن هذه المحبة والتشيع لأهلها، ورفع شعار نشر فقه آل البيت، وهو شعار لا يرفضه مسلم يعرف مكانة فقه عترة رسول الهدى، فآل البيت موضع احترام وإجلال ومحبة كل المسلمين، لكن ما هو مرفوض، ممن يعرف شرع الله المنزل على محمد هو ذلك «التدليس والتلفيق والخزعبلات والأوهام» التي ألصقت بآل البيت وبفقههم، وهم منه براء، لأغراض لا تتفق مع ما دعوا إليه وألزموه محبيهم وشيعتهم. وبعناوين «مقاومة الاستكبار» اتجهت الثورة إلى التسلح على حساب حياة الناس ونجحت، إلى حد كبير، في الحصول على دعم قطاع عريض من الإيرانيين وصبرهم وتحملهم حتى يعطوا وطنهم ما يحتاج إليه لبناء قوة يصد بها «هجوم الأعداء»!، ولم تكتف الثورة بتوجيه الثروة الوطنية إلى بناء القوة العسكرية وشبكة الدعاية ومنابر التوجيه وتنظيم البعثات في الخارج، بل قررت أن تضع أصابعها في «ثقوب» النسيج العربي، في بعض البلدان، ولتزيد من «حساسية» المناطق الملتهبة وتفجر احتقانها، ولا شك في أن نظرية «الأمن المخصوم من أمن الجوار» غذتها الخلافات العربية وفتحت شهيتها هشاشة عدد من الأنظمة في الدول الوطنية، وخوفها من شعوبها، فلجأت إلى إيران بحثا عن «تحالفات» تقف في وجه الأكثرية.

ويبدو، لمن يتابع الشأن الإيراني، طوال سنوات الثورة، أن قادة طهران رسموا لبلدهم «دورا سياسياً» في منطقة الجوار والامتداد المحتمل، يقوم على ركائز، منها: تفجير المشكلات، وتحريك القوى غير المنسجمة مع أوطانها ومساعدتها في التخطيط والتدريب والتمويل، ورفع شعار «مقاومة قوى الاستكبار»، استغلالا لنزعة كراهية الهيمنة الأجنبية، بكل أشكاله، وتوظيفا لأخطاء السياسة الأميركية في عدد من مناطق العالم الإسلامي، وتبنت إيران، منذ قيام ثورة الملالي، شعار الدفاع عن المستضعفين ومواجهة قوى الاستكبار، وكان غياب الوعي في غالبية المجتمعات المسلمة و«براءة» الشعارات مهد لتسلل تلك الدعاية إلى مؤسسات وطنية منافسة، وكسب صداقة أقلام وصحافيين وأكاديميين لهم حضورهم وتقديرهم في الوطن العربي، ففي السنوات الأولى للثورة الإيرانية، لم تكن الدعاية مكشوفة، بما فيه الكفاية، بل كان شعار «وحدة المسلمين وتقوية شوكتهم في مواجهة أعدائهم» شعارا جذابا في محيط الشباب العربي الخارج من «انكسار» التيار القومي والدخول في «تجربة» تيار الإسلام السياسي، بكل ما يخالطه من حمولات غائرة في الوجدان الشعبي.

ولكن الأيام، وهي معلم تتكرر دروسه، كشفت كثيرا مما كان خافيا، ولم يعد أمام إيران إلا إعادة «رسم» دورها للتعايش مع الجوار أو الاستمرار في إشعال الحرائق التي لن ينجو منها مشعلها.