توفيق السيف
الغالبية الساحقة من فقهاء المسلمين متفقون، على أن الاجتهاد ضرورة لتمكين الشريعة من استيعاب التحديات المستجدة في كل زمن. نعرف طبعاً أن محرك الاجتهاد هو الأسئلة التي لم تبرز على سطح المجتمع فيما سبق، وكذلك الأسئلة التي ما عادت أجوبتها القديمة مقنعة أو كافية.
مفهوم أيضاً أن عملية الاجتهاد، تتطلب مؤهلات علمية لا تتوفر لغير قلة من الباحثين المتعمقين في دراسة النص الديني من جهة وأدوات الاستنباط من جهة أخرى.
قد يكون الإمام أبو حنيفة الذي عاش في القرن الثامن الميلادي (ت 767م) أول فقيه مسلم يمارس الاجتهاد. وقد وضع جملة من القواعد المنهجية، ما زالت معتمدة حتى الآن. أشير أيضاً إلى الدور التأسيسي للإمام الشافعي (ت 820م) الذي يعتبر كتابه «الرسالة» أول عمل منهجي في هذا الحقل.
خلال الاثني عشر قرناً الماضية، أنتج الفقهاء آلاف البحوث المتينة في كل ما يتعلق بفروع الدين. أستطيع القول - مع بعض التحفظ - إن جميع الآيات والأحاديث التي تستفاد منها أحكام شرعية، قد درست مئات المرات، على يد مئات الفقهاء خلال مسيرة الفقه الطويلة. ونظراً لكثافة وتنوع هذه الأبحاث، فإن فقهاء اليوم لا يجدون بداً من البدء بمراجعتها حين تعرض لهم أي مسألة جديدة. الحقيقة أن ذلك التراث الضخم قد وفر على المعاصرين، جانباً كبيراً من كلفة البحث في المسائل. ومن هنا فإن آراء السابقين تشكل الجزء الأكبر من أي بحث يقدمه فقهاء اليوم.
هذا يستدعي بطبيعة الحال سؤالاً، يبدو غريباً بعض الشيء، خلاصته: إذا كان الفقيه المعاصر سيعتمد الآراء والاستدلالات التي تبناها قدامى الفقهاء، فما الحاجة إلى الاجتهاد في هذا الزمن؟
كنت قد وجهت هذا السؤال لأحد أساتذتي، فأخبرني أن الرجوع للقدامى غرضه الاستعلام لا الالتزام بآرائهم، تماماً كما يرجع أي باحث لكتب الآخرين، كي يوسع أفقه ويتعرف على أبعاد للمسألة لم ترد في ذهنه قبلئذ.
هذا الجواب الذي يبدو معقولاً نوعاً ما، لم يقنعني. لأني وجدت من أسأل عنهم، متقيدين حرفياً، ليس فقط باستدلالات السابقين وآرائهم، بل - وهذا هو الأدهى - بتصورهم لموضوعات المسائل وتكييفها. ولأن الفقه بطبيعته شكلي، يولي اهتماماً كبيراً للأسماء، فإن معظم ما توافق السابقون على تعريفه، قد انتقل بقضه وقضيضه إلى دراسات الفقهاء المعاصرين.
أذكر للمناسبة أن أستاذاً لي عرض على بحار عجوز، الطريقة التي ذكرها الفقهاء، لتحديد أوقات الصلاة والقبلة في عرض البحر. فأجابه البحار ببساطة: لو ركبت سفينة لتركت كل هذا الكلام، لأن كاتبه لا يعرف البحر ولم يجربه. ثم شرح طريقة البحارة في حساب الزمن والمسافات والاتجاهات، وكانت مختلفة عما ذكر في الكتاب. وحسب علمي فإن الباب المسمى «كتاب الوقت والقبلة» ما عاد يدرس الآن، لأن أساتذة الفقه اقتنعوا أخيراً أن الاعتماد على الساعة والبوصلة، أجدى وأنفع مما توارثوه.
ما زال سؤالي حائراً: هل يمكن لمن تشكلت ذهنيته من خلال دراسة التراث الفقهي، هل يمكن له أن ينظر إلى المسائل المستجدة، من دون أن يتأثر بتصويرات السابقين وآرائهم؟ وهل يستطيع التعبير عن الرأي الذي توصل إليه، إذا كان مخالفاً تماماً لآراء السابقين في المسألة نفسها، أو في مسألة تحمل الاسم والصورة نفسهما؟
التعليقات