عبدالعزيز التويجري

شاركت في ندوة علمية نظمتها أكاديمية المملكة المغربية في الرباط، احتفاءً وتكريماً للأستاذ عبد الهادي بوطالب، عضو الأكاديمية، رحمه الله، وأحد أقطاب الفكر والعلم والثقافة في المغرب. وحُدد الموضوعُ الرئيس للندوة في سؤال: «أي مستقبل للبحث في العلوم الإسلامية؟».


والواقع أن هذا الربط بين المحتفى به، وبين مستقبل البحث في العلوم الإسلامية، يعكس بوضوحٍ، طبيعةَ هذا العالم الفذ الذي كانت له في ميادين العلوم الإسلامية المكانةُ المرموقة، والتميّزُ في الاجتهاد والتجديد، والنبوغُ في الفكر والبحث، والقدرةُ على المواءمة بين الأصالة والمعاصرة، والخبرةُ في المزاوجة بين العلوم الشرعية وبين العلوم الحديثة، في انسجامٍ وتناغمٍ بين القديم والجديد، هذا إلى النجاح الكبير الذي حققه في المهامّ السامية التي اضطلع بها عبر مراحل حياته الحافلة بالعطاء المثمر المتنوّع. فلقد أغنى الأستاذ عبد الهادي بوطالب، المكتبة الإسلامية بمؤلفات ودراسات مُبدعة، أذكر منها: الحكم والسلطة والدولة في الإسلام، وحقوق الأسرة وتحرير المرأة، وبين الشريعة والفقه والقانون، وبين الشورى والديمقراطية، وحقيقة الإسلام، ومن قضايا الإسلام المعاصر، في جزءين، ولكي نفهم الإسلام أحسن، والسلفية: استشراف مستقبلي، وقبسات من نور الذكر الحكيم، في ستة أجزاء، إلى غير ذلك من الدراسات اللغوية والسياسية والفكرية والقانونية التي تشكل رصيداً معرفياً مهماً للباحثين وشداة المعرفة.

وكما ارتبط المحتفى به بالعلوم الإسلامية، باعتباره أحدَ الطلاب النجباء النابهيــن الذين تخرجوا في جامعة القرويين العتيدة في فاس، وحصلوا على شهادة العالمية، ارتبط أيضاً، بالعمل الفكري الجادّ والهادف والمستمر للإسهام، من المواقع التي شغلها، في صناعة مستقبل هذه العلوم. والجدير بالذكر أن العالمــية من القروييــن القسم الأدبي، لم تكـــن تختلــف عن العالمية القسم الشرعي إلا في مجال التخصص الدقيق. ولذلك، فقد جمـــع الأستاذ بوطالب بين شهادتَي العالمية في إهابٍ واحد، فكان في تكوينه العلمي والأدبي العالي، جامعاً بين علوم العربية، مــن نحوٍ وأدبٍ وبلاغـــةٍ وبيانٍ، وبين العلوم الشـــرعية، من تفســيرٍ وحديثٍ وسيرةٍ وفقهٍ وأصـــول. وذلك هو جماعُ العلوم الإسلامية بشقَيْها. فهو عالمٌ علّامةٌ وأديبٌ فهّامة.

وفي الفترة التي أدار فيها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة -إيسيسكو- منذ قيامها في 1982، وحتى نهاية عام 1991، حرصَ الأستاذ بوطالب، على وضع الأسس لعمل تجديدي في مجالات التربية والعلوم والثقافة، وشارك بفكره ومبادراته في توجيه مسار العمل الإسلامي المشترك في هذه المجالات، وبذل جهوداً متواصلة لحثّ الدول الأعضاء على الاهتمام بالفكر والمعرفة، وإعادة ترتيب البيت الإسلامي لتمكينه من الولوج في عصر العلم والتقدم والاقتدار الحضاري، في إطار من التكامل والتنسيق بين دوله المختلفة. ولقد واكبتُ ذلك معه خلال عملي إلى جانبه مديراً عاماً مساعداً في الثقافة طيلة ست سنوات، كانت حافلة بالعطاء المستمر والعمل الشاق في ظروف صعبة وتحدّيات عاتية.

إن هذا الضربَ الراقي من التكوين الجامعـــي العالي، الذي كان سائداً في بعضٍ من الحواضر العربية والإسلامية، التي كانـــت عواصمَ للثقافة الإسلامية، ومعاقــلَ للعلـــم والمعرفة، إلى حدود العقـــود الستة الأخيرة، هو الذي كان له الأثر الكبير في إغناء العلوم الإسلامية، وفي إذكـــاء جذوتها فزادت توهّجاً وتألقاً، بحيث كـــان خريجو تلك الجامعات والمعاهد أركاناً للعلــــوم الإسلامية، وبُناةً للنهضة العلمية والثقـــافية، بل وحتى الأدبية. فكان البحث في هذه الحقول العلمية ينضج ويثمر ويزدهـــر، وتتنوّع مصادرُه وتتعدّد مناهلُه.

ولذلك، فإنَّ مستقبل البحث في العلوم الإسلامية عموماً، يرتبط أساساً، بالكشف عن مواطن الالتقاء بين القيم الدينية الثابتة وبين القيم العالمية التي يُصطلح عليها بالقيم الكونية، وبتوظيفها في تطوير مناهج البحث وتوسيع آفاقه، مما يقتضي الجمعَ بين العلوم الإسلامية والعلوم الإنسانية الحديثة، والتوفيقَ بين رؤاها وتصوّراتها وحقائقها التي لا تَتَعَارَضُ مع الثوابت الدينية والأحكام الشرعية من القرآن الكريم والسنة الصحيحة. وثمة مجالات كثيرة لهذا الالتقاء ينبغي العمل في إطارها، وتوظيف الإمكانات التي تتيحها للباحثين من العلماء.

كما يرتبط مستقبل البحث في العلوم الإسلامية، من وجوه كثيرة، بحاضر الجامعات والمعاهد العليا المتخصصة في هذه العلوم، وبوضعها الحالي، وبالظروف التي تعيش في أجوائها؛ إذْ كلما تطوّرت هذه المؤسسات التعليمية التاريخية، ومعها الجامعاتُ والمؤسساتُ الحديثةُ التي تُعنى بالدراسات الإسلامية، وجدّدت في المناهج والبرامج وفي الرؤى وفي الأهداف، وارتقت في تخصصاتها وتوسّعت فيها، وسايرت بها المتغيّرات المتلاحقةَ في هذه المجالات الأكاديمية، تَطَوَّرَ، وبصورةٍ تلقائية، البحثُ في العلوم الإسلامية، وكانت له تأثيراته النافذة الشاملة التي لا تقتصر على مجال واحد، فينتجُ عن ذلك تجديدٌ للفكر، وإغناءٌ للبحث، وإنماءٌ للحياة.

من هذا المنظور الشمولي، نُدرك أهمية التنمية العلمية والثقافية، التي تقوم على قاعدة البحث في العلوم والمعارف جميعاً، ومنها العلوم الإسلامية. فمستقبل هذه العلوم يقوم على أُسُسٍ من حاضرها، فبقدرما يكون الحاضر مزدهراً، ومتطوراً، ومنفتحاً على الآفاق الواسعة غير المحدودة، يكون المستقبل كذلك. والعكس صحيح، ما في ذلك شكٌ قط. وهنا يجدر بنا أن نتساءل عن أوضاع البحث في العلوم الإسلامية في حاضرنا. هل يقوم البحث في هذا الحقل العلمي على أسس صحيحة؟ وهل يخدم البحث في العلوم الإسلامية أهداف التنمية العلمية والثقافية الشاملة؟ وهل الباحثون في هذه العلوم ينفتحون على عصرهم، ويندمجون في تياراته المعرفية، وينخرطون في السياق الحضاري الإنساني، ويتابعون الجديد ويستوعبونه ويحيطون بتفاصيله، وهل يواكبون التطور الحثيث الذي تعرفه الحياة العلمية والأكاديمية في الدول المتقدمة؟

تلك هي الأسئلة المحورية التي تُطرح في هذه المرحلة، والتي من خلال الجواب عنها، نقف على حقيقة مستقبل البحث في العلوم الإسلامية. بل نقفُ على مستقبل العالم الإسلامي. وقد ساهمت النخبة من المفكرين الذين شاركوا في الندوة، في مناقشة هذه القضايا، وتقديم رؤى تجديدية، تحتاج إلى بلورتها في مبادرات أكاديمية وإنتاجات علمية تغني الحياة الفكرية، وتُحرّك سواكنها، وتفتح المجال لإعادة البحث في هذه الحقول العلمية المهمة وجعلها مواكبة لمستجدات الحياة ونوازلها المختلفة.