محمد السعيدي

في هذا الخضم من الفتن المتسارعة والمشتبهات، لا نجد دولة أصدق موقفا ولا أولى بالثناء من السعودية، وإن وقف أحدنا مختلفا مع قرارها أو غير متفهم له في جزئية هنا أو هناك

حينما نبحث عن مطالب الحركات الإسلامية، خاصة حركة الإخوان المسلمين التي كانت تُعلِنها قبل الخريف العربي، نجد أنها: تطبيق الشريعة والجهاد في سبيل الله والولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين وجمع الأمة الإسلامية.
وهذه المطالب انقلبت بوضوح بعد خريف الثورات، وإن كانت إرهاصات انقلابها قد ظهرت قبلُ عند بعض السباقين إلى التجديد الفكري المزعوم كراشد الغنوشي زعيم النهضة التونسية، وعضو الاتحاد العالمي للإخوان، وأصبح المطلب هو «الحرية قبل تطبيق الشريعة» شعارا تماهوا فيه حتى أعلن بعضهم صراحة: أن العلمانية هي الإسلام، بعد أن ناهضوا الحكومات وحكموا بتكفيرها لسنين طويلة بتهمة العلمانية وعدم تطبيق الشريعة، وأصبحوا أيضا لا يتحدثون عن الولاء والبراء ويرفعون شعار الأخوة مع النصارى، وتقدموا في ذلك كثيرا فأجازوا ولاية الكافر بحجة أن الدولة دولة مؤسسات مدنية والْمُهِمُّ في إدارتها: اختيار الأقدر، سواء أكان مسلما أم غير مسلم، ومنهم من يتحرج من تسمية غير المسلم كافرا؛ حتى إن عالما كالشيخ يوسف القرضاوي لم يستنكف في أحد لقاءاته من تبرئة اليهود من المسخ، مع أنه كان قبلُ في خُطَبِه يصفهم بأبناء القردة والخنازير. 

وأحد زملائه في الاتحاد العالمي، لمن يسمون أنفسهم علماء المسلمين، يضرب بكل دروس الولاء والبراء عرض الحائط، ليفتي السعوديين بالهجرة من السعودية إلى دول أوروبا!.
نعم، هناك كثير من الإسلاميين المنتمين إلى أصول فكرية سلفية، ويُسميهم البعض بالتيار السروري، يختلفون مع الإخوان في تنحية المطالبة بالشريعة وتقديم الحرية، وكذلك يختلفون معهم في التراجع عن مبدأ الولاء والبراء؛ لكنهم يعتذرون لهم بالسياسة الشرعية ومراعاة الواقع والتدرج في إظهار الحق، ولذلك أيدوهم في كل مواقفهم بعد الخريف العربي، وشاركوهم أيضا في عواطفهم السياسية التي تقف دائما متَّهِمةً السعودية بكل آفة، مُسدية الأعذار والتبريرات والإشادات المتتاليات إلى قطر وتركيا.

وآخر تقليعاتهم في ذلك، النعي على السعودية وما يحصل فيها من خروج عن نطاق الفتوى الشرعية لمؤسسة الفتوى الرسمية في بعض القضايا المتعلقة بالمرأة والترفيه، ومع أنني لست مع ذلك، إلا أنني أستنكر كثيرا أن يأتي هذا الإنكار على أَلْسِنَة الحزبيين أو المتعاطفين معهم، وذلك لأمرين:
الأول: أنني لا أعلم أنهم كانوا يثنون على السعودية قبل هذا الانفتاح، فلم يكن وقوف السعودية عند هذه الفتاوى مصدر إعجاب لهم، بل على العكس من ذلك كان بعضهم ينتقد السعودية بحدة على أخذها بهذه الفتاوى، فالشيخ الغزالي -رحمه الله- في 1412 يصف فقه هيئة كبار العلماء بالفقه البدوي، والشيخ القرضاوي يرسل إلى الملك عبدالله عام 1432 يطالبه بالسماح للمرأة بقيادة السيارة، وعزام التميمي يرى أن هيئة كبار العلماء السعودية تعيش في فترة أكثر ظلامية من الكنيسة الأوروبية في عصور الظلام، ومن كان من فقهائهم يوافق هيئة كبار العلماء على فتاواها لا يُعْرَف عنهم الثناء على المملكة والتزامها، بل كان قصاراهم الصمت، هذه هي السِّمَة الغالبة، ولكل حالة استثناءات.
الأمر الآخر: أن ما يجري في السعودية مما يُسمى انفتاحاً، كله دون استثناء لا يتعارض مع فتاوى كبار مفتي الإخوان، وإذا أخذنا الشيخ القرضاوي عنوانا لهم نجد أنه يفتي بجواز اختلاط الرجال والنساء في محال العمل والأفراح، وسفر المرأة دون محرم، وكشف الوجه وتزيينه، وممارسة المرأة للتمثيل التلفزيوني والسينمائي، والسباحة بملابس البحر عند الضرورة، ويجيز الموسيقى، والغناء العاطفي، للرجال والنساء، ويستثني ما كان داعيا إلى فحش أو كان مخالفا لآداب الإسلام، وهذا هو ما تقوله هيئة الترفيه في السعودية.

لذلك، لا يمكنني أن أفهم إنكار من ينكرون من الإخوان على ما يُوصف بالانفتاح الحاصل في السعودية، إلا أنه تناقض ليس مبعثه الدين ولا الغيرة عليه، بل مبعثه معارضة سياسية وحسب، فليس اعتراضهم على الدولة حين كانت متوافقة مع فتاوى الهيئة لأنها متوافقة معها، كما أن اعتراضهم على الدولة حين خالفت فتاوى الهيئة ليس لأنها خالفتها، بل لأنهم حزب سياسي معارض، ضد الدولة فقط، شأنهم كشأن أي حزب سياسي معارض ينتقد الحكومة لأنه خارجَها، فإذا تولى الحكم قام بالأفعال نفسها التي كانت الحكومة السابقة تمارسها، فهذه الأعمال صحيحة وموافقة بفتاواهم حين تمارسها قطر، لكنها تغريب وانحلال وخضوع للضغط الغربي حين تفعلها السعودية، وقد تجلى ذلك بوضوح في الفترة القصيرة التي حكم فيها الإخوان مصر. 
فمن الأمثلة الصارخة عليه، أن حكومة حسني مبارك العلمانية كانت تمنح الأندية الليلية تصريحات يتم تجديدها كل سنتين، وكان الرئيس مرسي إبان عضويته في مجلس الشعب ينادي بتطبيق الشريعة، وحين قامت حكومة الإخوان الإسلامية برئاسته قرر تمديد التصريحات إلى 3 سنوات من باب إثبات البراءة من الانتماء الديني، وهم يتأولون ذلك بأنه من السياسة الشرعية، كي لا يرفضهم العالم، والأمثلة غير هذه كثيرة.
ويظهر لي، أن اتخاذ الدين ألعوبة سياسية، ومخادعة عواطف الناس به، هو أحد أسباب الخذلان التي مُني بها الإخوان منذ تأسيس حركتهم عام 1346 وحتى يومنا هذا، فالله تعالى يقول: «وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزيزٌ» [الحج: ٤٠]. 

فاستمرار الخذلان مدة قاربت الـ100 عام مع دعاواهم المتكررة نصرةَ الدين، لا بد أن يحملهم على التفكر في أسبابه، فالله تعالى لا يخلف وعده.
أما المتعاطفون معهم من ذوي الانتماء السلفي، فأكثر الناشطين منهم أيضا لم يكونوا يثنون على الدولة السعودية لِمَا تلتزم به من فتاوى هيئة كبار العلماء، بل كانوا يرونها مقصرة ومفرطة وداعمة للليبرالية والتغريب، وليس ذلك الآن، بل منذ نشأة هذا التيار أواخر التسعين الهجرية، ورغم قيام الدولة بكل ما تتمناه أي شريحة متدينة في أي بلد في العالم، من تعليم ديني وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وإقامة لشعائر الله ودعوة في الداخل والخارج، ودعم للجهاد، وغير ذلك من الخير الذي لم تقطعه الدولة حتى في أحلك ظروفها المادية والسياسية، فقد كانوا شديدي النقد لها والتقليل مما تقوم به.
ثم نراهم اليوم ينكرون ما يسمونه انفتاحا، على السعودية وحدها، ولا يرى كثير منهم الثناء عليها حتى في جوانب بعيدة عن الانفتاح والتغريب، كنشاطات وزارة الشؤون الإسلامية والنشاط الأمني والتنموي والاقتصادي، ولا يرون التماس الأعذار لها، هذا مع أن كثيرا منهم لا يجد غضاضة في الثناء على دولة مثل تركيا في كل شيء، كما يلتمسون لها العذر في كل تقصير ديني مهما عظم خطبه، وعلى الرغم من مرور 14 عاما على حكم حزب العدالة، إلا أنه ما يزال معذورا عند هؤلاء في كل ما يحاول الآخرون انتقاده به من زاوية دينية، وأنا في هذا المقال لست معنيا بتوجيه اللوم إليه أو التماس العذر له، لكنني معني ببيان التناقض الذي تقع فيه التيارات الحركية الإسلامية، وهو تناقض شديد الجلاء للعيان لدرجة تضعف الثقة في الرؤية السياسية لهم، كما تضعف الثقة بتجردهم في تقدير المواقف وتقييم الواقع.
نعم، سأتفهم هذا التناقض -ولو لم أقبله- من سياسي متجرد للسياسة النفعية، أما من يزعم أنه ينطلق في نظرته وتقييمه من الدين والشريعة والحق والعدل، فلن أتفهم موقفه، بل سأرميه بالهوى والقصور والظلم.

وكيف لا أفعل ذلك مع من يرمي السعودية بالتآمر مع الكيان الصهيوني، من أجل ما أسموها صفقة القرن، مع أن السعودية ليست بينها وبين هذا الكيان أي علاقة، بل لا يوجد حتى تسريب موثق بصورة أو صوت أو حتى من جهة متخصصة بالتسريبات كويكيلكس عن علاقة رسمية، من هذا النوع، بينما نجده يعلي من شأن قطر وتركيا وموقفهما من الكيان الصهيوني، مع أن العلاقة بينهم أشهر من أن تُعَرَّف وعلى صُعُد عالية جدا، دبلوماسية وتجارية بل حتى على مستوى التصنيع الحربي الذي لا يتوقف التبادل به حتى مع التوقف المؤقت للتمثيل الدبلوماسي الذي يحدث بين الفينة والأخرى تضامنا مع أهل غزة، مع أن المنطق يقول إن الذي ينبغي توقفه تضامنا مع غزة هو علاقة التصنيع العسكري!.
وكذلك عند الحديث عن العلاقة مع الولايات المتحدة، نراها في موضع التخوين والاتهام بالعمالة والانصياع حين تكون مع السعودية التي لا تحتضن قاعدة أميركية، وليست في حلف الناتو، وتترأس تحالفا عسكريا إسلاميا، وهي بحق في حاجة إلى تحالف مع أميركا لوقوفها فعلياً في حرب حقيقية مع عدو صفوي خبيث.

بينما قطر وتركيا، تتضمن أراضيهما قواعد أميركية كبرى، وإحداهما حليف في الناتو والأخرى تستجدي الناتو حلفا، هاتان الدولتان عندهما مثال الولاء والبراء والقوة على الأعداء.
صور كثيرة من التناقض الذي لا يمكن أن يثبت إلا على صفحة من العداء السياسي لا غير، أما صفحة العدل في القول والفعل، والذي أمر به الدين فهي تأباه وتفضحه.
إنما في هذا الخضم من الفتن المتسارعة والمشتبهات لا نجد دولة أصدق موقفا ولا أولى بالمؤازرة والتأييد والثناء من السعودية، وإن وقف أحدنا مختلفا مع قرارها أو غير متفهم له في جزئية هنا أو هناك، فإن تغليب الاختلاف في الجزئيات على عموم المصلحة ضيق في العطن، وانعدام في رؤية الأفق وانصياع لأمراض القلوب.