سمير عطا الله

 تابعت محنة فتيان الكهف في تايلاند منذ اللحظة الأولى حتى اليوم الأخير. رأيت فيها امتحاناً بشرياً مثيراً، لا خبراً من الأخبار العاجلة: كيف سوف يصمد أولئك الشبان على حافة اليأس والأمل وهم يعانون أسوأ المشاعر: الخوف، والبرد، والغرق، والظلام، والمجهول؟

وكيف ستتصرف دولتهم وشعبهم ودول وشعوب العالم القادرة والمؤهلة للمساعدة؟ وكم منهم سوف يُنقذ، وكم يمكن أن يتمادى سوء طالعه في مطاردته في هذه الزنقة الرهيبة بين الفيضان والطوفان والسقف الحجري المطبق على المحتجزين؟ في البداية، قيل إن المسألة طويلة قد تستغرق عدة أسابيع. وتذكرت حادثة وقعت في تشيلي قبل سنوات عندما احتجزت مجموعة كبيرة من عمال أحد المناجم لفترة طويلة. يومها قال رئيس المجموعة بعد إنقاذها إن همه الأول طوال الوقت كان تشجيع رفاقه على الصبر والصمود.
هذه اللغة العبقرية تبدأ من حروفها، لا من جملها. ابحثْ عن حرف «الصاد» ترَ أنه حرف الصلابة... «الصبر» و«الصمود»، وكدت أقول «التصدي» لولا أننا في مرحلة مديدة سخّفنا معنى الكلمة، وأفرغناها من جبروتها ومعناها، وحولناها، مثل معظم الأشياء النبيلة في حياتنا، من صخور إلى حصى. لاحظ دور الصاد: الصخر، وقد تفتت. الخصب، وقد تصحر. الصوت، وقد صمت. الصمود، وقد انصاع. والأمل، وقد استعصى!
ليس العدد دائماً الأهم. الإثارة التي عمّت العالم كانت في (أيضاً الصاد) «عناصر» الحدث. الطبيعة فجأة تخرج على نظامها في كل مكان: العشرات في اليابان يموتون غارقين في طين الفيضانات، وأوروبا تطوف في عز الصيف، وموجة حر قاتلة تجتاح كندا؛ بلاد الجليد والثلج، والأعاصير المألوفة تبدأ تحركها المريب في الولايات المتحدة، مكررة الهبوب المجنون... وماذا أيضاً؟ أجل. «صاد» العواصف.
كل عربي يشعر في نفسه بعقدة ذنب: كيف يمكن أن تأخذ مشاعره محنة بضعة فتيان في أقصى آسيا، ونحو 300 ألف إنسان إضافي في جنوب سوريا يغبطون أهالي الكهوف على أن سقفاً ما فوق رؤوسهم، وفرق إنقاذ تتطلع إليهم، وثمة مكاناً يعودون إليه عندما تزول الـ«صـ»عوبات.
على مدى 20 يوماً أعطى التايلانديون العالم درساً يومياً في اهتمام الدولة بمواطنيها... جيش وطيارون وغطاسون وأطباء وشعب بأكمله ينتظر بصبر وقلق أن تنجح حكومته في تحدي العناصر. وقد فعلت. التفّت على الفيضان، ودارت حول الكهف، وغطست في المياه، وطارت بالهليكوبتر، وصبرت وصمدت وتصدت... وأصابت.