هاشم عبده هاشم: الآلاف من الشهداء والأبرياء وبالذات من أبناء أفغانستان.. ومن أشقائهم العرب.. وكذلك من غيرهم هي نتاج الاحتلال السوفيتي لأفغانستان عام 1980م بكل ما أدى إليه ذلك الاحتلال الكريه من تبعات أشقت العالم كله ونحن في مقدمته منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم..

• ثانياً

: إن ظهور حركة طالبان -بشكل قوي- على الساحة الأفغانية قد ترافق مع حالة الفراغ الرهيب الذي دخلت فيه البلاد بعد الانسحاب السوفيتي.. ونتيجة من نتائج صراعات الفصائل الأفغانية المتقاتلة.. وهي الفترة التي أدخلت البلاد في حرب أهلية شرسة.

• ثالثاً

: إن المملكة العربية السعودية كانت أول دولة تتصدى لهذا الوضع المأساوي في البلد الإسلامي العزيز.. بدعوة القيادات الأفغانية المتقاتلة للمجيء إليها.. والاجتماع في مكة المكرمة لأكثر من مرة.. وساعدتهم على التوصل إلى التوقيع على أكثر من وثيقة لإيقاف القتال الدائر فيما بينهم وإن أخلَّ الجميع بما اتفقوا عليه وغرقت البلاد في الدماء.. وما زالت حتى اليوم..

• رابعاً

: إن المملكة من أكثر دول العالم ومجتمعاته التي تضررت كثيراً من الحروب الأفغانية بما صدرته تلك الحروب إلينا وإلى العالم كله من إرهاب بدأ بظهور القاعدة.. وانتهى بداعش.. وبعض التنظيمات الإرهابية الأخرى.

• خامساً

: إن تدخل العديد من الأطراف الخارجية في الشأن الأفغاني.. كان وما زال يُشكل وقوداً خطيراً لاستمرار الوضع المأساوي الذي تعيش فيه البلاد.. وأدى إلى استمرار القتال بين الدولة الأفغانية وحركة طالبان.. وما زال يُساهم في تأجيجه..

• الدولة القبلة.. تريد السلام لأفغانستان

•• ورغم كل هذه الحقائق المؤلمة.. فإن المملكة العربية السعودية لم تتخل عن دورها المركزي والأساسي والمحوري.. باعتبارها قبلة المسلمين وموئل أفئدتهم.. بحكم وجود الأراضي المقدسة فيها.. وما شرفها الله به من مكانة روحية عالية.. أسهمت في تعزيز مكانتها السياسية والاقتصادية والفكرية في العالم.. وكذلك بحكم جهودها المخلصة والبناءة في مكافحة الإرهاب.. والتصدي لكل ما من شأنه زعزعة استقرار العالم وأمن المجتمعات والحيلولة دون تبني التنمية كخيار حضاري أساسه التعايش.. في إطار السلم.. وطي صفحات الحروب والتوجه نحو إعمار الكون وبناء المجتمعات.. والالتفات إلى تطلعات الشعوب وأمانيها في العيش بطمأنينة والتطلع إلى المستقبل الأفضل باستمرار.

•• هذه العقيدة السياسية التي تنطلق منها المملكة كنتاج طبيعي وتلقائي لمكانتها الإسلامية الكبيرة في العالم.. دعتها إلى استئناف جهودها المخلصة والبناءة لجمع شتات الإخوة الأفغان في رحاب البيت العتيق.. وأمام الكعبة المشرفة.. ملتمسين من الله سبحانه وتعالى العون والسداد للجميع.. وصولاً إلى حياة طبيعية كاملة يهنأ في ظلها الشعب الأفغاني في أقرب وقت ممكن بالهدوء.. والأمن.. وبالحياة المستقرة.. ويلتفتون من جديد إلى إعادة بناء بلادهم على أسس من الشراكة.. والمحبة.. والوفاق التام.

• لماذا اجتماع العلماء في مكة؟

•• وهكذا كانت الدعوة إلى المؤتمر الدولي للعلماء المسلمين حول السلم والاستقرار في جمهورية أفغانستان.. للاجتماع في المملكة.. لتحمل مسؤوليتهم التاريخية في دعوة كافة الأطراف المتصارعة وفي مقدمتها الحكومة وحركة طالبان إلى الجلوس على طاولة الحوار.. وتغليب الحكمة والعقل ومصلحة البلاد والعباد.. والعمل على إيقاف الاقتتال الدائر بينهم.. وإيقاف إراقة الدماء.. والنظر إلى المستقبل بمسؤولية.. وإلى حق الشعب في الحياة الهادئة.. والمطمئنة.. والكريمة.. في ظل دولة وطنية كاملة السيادة على أراضيها.. وبعيدة عن التدخلات الخارجية.. وتحت مظلة الإسلام الحق.. بقيمه.. وثوابته التي تقوم على العدل.. والمساواة بين الجميع..

• مغزى تفاؤل الملك سلمان بالمستقبل

•• وفي هذا الاتجاه.. فإن الملك سلمان.. كان من أسعد الناس يوم الأربعاء الماضي 11 يوليو 2018م.. وهو يستقبل علماء المسلمين.. وفي مقدمتهم علماء أفغانستان أنفسهم ويستمع إليهم.. ويتحدث مع الكثيرين منهم حديث المسؤولية.. وحديث الإنسان المؤمن.. وحديث الرجل الذي يهمه مستقبل الشعب الأفغاني المسلم..

•• وفي كلمته إليهم جميعاً أكد الملك سلمان على «أن المملكة عاشت مع الشعب الأفغاني معاناته منذ أن بدأت أزمة أفغانستان وما نتج عنها من حروب أهلية» ووضع الجميع أمام مسؤوليتهم التاريخية بقوله «أنتم خير من يعمل لخدمة الإسلام والمسلمين وتوحيد كلمتهم.. وجمع شملهم.. وإزالة ما حل بالعالم الإسلامي من حروب وأزمات.. ومن آفات التطرف والإرهاب».

•• ولم يُخفِ الملك سلمان تفاؤله بما ستؤدي إليه الجهود المخلصة التي تبذلها المملكة الآن لإيقاف المأساة الأفغانية.. بدءاً بجهودهم المطلوبة للعمل على طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة في أفغانستان تحقق للشعب الأفغاني ما يتطلع إليه من أمن واستقرار.. أخذاً بمنهج الحوار والتصالح والتسامح.. وهي المضامين التي انطوى عليها «إعلان مكة» ودعا فيها إلى مفاوضات مباشرة بين الحكومة وطالبان.. وصولاً إلى السلام المنشود..

•• وما أستطيع أن أؤكده هو: أن اجتماع علماء المسلمين بمن فيهم علماء أفغانستان أنفسهم.. هو بداية لها أكثر من مغزى.. لتهيئة النفوس لعمل سياسي بعيد المدى يجري الإعداد له بهدوء.. وبدأب.. وعلى كل الأصعدة.

•• ولا يجب أن يفاجأ العالم بما ستقود إليه جهود المملكة الحالية للوصول إلى هذه الغاية في الوقت المناسب مستفيدة من إدراك الإخوة والأشقاء في أفغانستان لأهمية مكانة ودور المملكة في العالم كله، وفي العالم الإسلامي بصورة أكثر تحديداً كقائد للعمل الإسلامي المخلص والبناء والقائم على تغليب مصالح الأمة والسعي إلى جمع كلمة الإسلام والمسلمين.. وتعزيز الوحدة الوطنية داخل كل بلد عربي وإسلامي.. وإبعاد بلداننا.. ومجتمعاتنا عن المآسي والكوارث والحروب.. والانتقال بها إلى مجتمعات متصالحة مع نفسها.. ومستغلة لفرص تطورها.. وتنمية مستويات حياة شعوبها..

•• وما أتوقعه -في الفترة القادمة- هو: عقد لقاءات عالية المستوى في مكة المكرمة.. تجمع القيادات الفكرية والنخب السياسية.. والطلائع المجتمعية على اختلاف ألوانها ومشاربها.. في إطار سياسة الإعداد والتهيئة للأرضية.. وتوفير قواعد مشتركة للحوار والتفاهم البناء.. وتوحيد الرؤى.. وتصفية النفوس.. وتعزيز الثقة بين الجميع.. وبلورة صورة المستقبل لأفغانستان جديدة.. وموحدة.. وقوية.. وذات حضور قوي على الساحتين الإسلامية والدولية..

•• وفي نهاية المطاف..

•• فإن اللقاء المرتقب بين القيادة الأفغانية الحريصة على إنهاء الاقتتال وقيادات طالبان كفيل بتتويج هذه الجهود المخلصة والبناءة التي تبذلها المملكة.. ولن تدخر أي جهد.. وأي سبيل.. وأي إمكانية.. في سبيل عودة السلام والأمن والاستقرار إلى أفغانستان المسلمة..

•• وفي ذات الوقت الذي تسعى فيه المملكة -بكل ما أوتيت من قوة ومن قدرة ومن استثمار لمكانتها في قلوب الأشقاء الأفغان- على جمع الفرقاء في البلد الكبير المسلم.. فإنها تعمل أيضاً على كافة الأصعدة الدولية على أن تعود أفغانستان إلى طبيعتها دولة إسلامية.. حرة.. مستقلة.. وقوية.. ولا توجد على أراضيها أية قوة أجنبية.. إقليمية أو دولية.. حتى ينعم الشعب الأفغاني بالتمتع بكامل حقوقه في ظل توحد كافة قواه ومكوناته الوطنية في ظل دولة يستظل الجميع فيها بظلال الحرية.. والحب.. والمؤاخاة بين الجميع.. وبالسلام للجميع.. ومن أجل الكل.. بعيداً عن التصنيفات.. وكذلك بعيداً عن التدخلات في شؤونهم الداخلية.. لأنهم شعب قادر على أن يعيش حياة مستقلة.. لأنه شعب صاحب تاريخ حتى قبل أن تقوم دول وشعوب نشأت من حوله..

• جهود حثيثة لجمع الفرقاء في قبلة المسلمين

•• لكن ما أريد قوله قبل أن أختتم هذه المقالة التحليلية هو: أن المملكة العربية السعودية.. قامت وتقوم بواجبها تجاه أفغانستان.. الشعب.. والدولة.. إيماناً منها بالواجب والمسؤولية.. ودون أي أطماع.. أو مصالح.. أو غايات.. تبتغيها.. وهي إن شاء الله قادرة على ذلك.. ومهيأة له.. وليس هناك من ينافسها على هذا الدور.. أو يمتلك نفس المكانة.. بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى.. سواء كانت جغرافية.. أو ثقافية.. من نوع.. أو آخر..

•• فليس هناك غير مكة واحدة.. ومدينة منورة وحيدة.. وقداسة هذه البلاد.. ومنطلق الرسالة السماوية منها.. أوجبت عليها أن تكون قبلة في العمل السياسي النزيه.. والمنظم.. كما هي قبلة روحية خالدة لعموم المسلمين في كل مكان..

•• ومن حق الإخوة الأفغان علينا أن نقف معهم.. وأن ندعم كل عمل يحقق لهم الخير.. ويعيد السلام والاستقرار إلى بلادهم لينعموا بخيراتها الوفيرة.. ويمارسوا دورهم في خدمة أمتهم.. ورفعة شأنها.. بعد أن مزقتها الحروب.. ودمرتها الأطماع.. والمؤامرات.. وأراقت في أرجائها دماء الأبرياء كل هذا الزمان.. وكفاهم اقتتالاً.. وكفاهم تفرقاً.. وتناحراً.. وكراهات.. وتشرذماً.. وانهيارات.

•• ومن حقنا عليهم أن يشاركونا القناعة بأنه قد كفى ما لحق ببلادهم وشعبهم من كوارث ومآسٍ غير مسبوقة.. وأنه قد حان الوقت لكي نتفق على أنه لا شيء يعدل السلام في أهميته.. وقيمته.. وضرورته.. وأن أي عقبات برزت في الماضي وحالت دون الوفاق بينهم لابد وأن تختفي اليوم وإلى الأبد.. فليس هناك ما هو أثمن من حياة الشعوب.. وأنه مهما بلغت الخلافات من الحدة.. والضراوة.. والتعقيد.. لأسباب عرقية.. أو مذهبية.. أو فئوية.. أو مناطقية.. إلا أن الشعوب في النهاية تظل واحدة.. ولها أصل إنساني واحد.. وأن القواسم المشتركة العظمى بينها تظل أكبر وأقوى من كل أسباب الاختلاف.. والفرقة.. والتباعد.. ولنا في تاريخ أوروبا في العصور الوسطى أكبر دليل ومثل على أن مصير الشعوب -في النهاية- هو الالتقاء والتوحد.. إن لم يكن في الثقافة والدم.. واللغة.. ففي المصالح العليا المشتركة التي أصبحت تشكل العنصر الأهم في الالتقاء بين الدول رغم بحار الدم التي سالت بينها وبين الشعوب رغم التناحر الذي ساد بينها لقرون طويلة..

•• هذه قناعتنا.. نحن هنا في المملكة العربية السعودية.. وهي قناعة بتنا نشعر بأن الإخوة الأشقاء في أفغانستان يشاركوننا فيها..

•• صحيح أن هناك بعض العقبات التي تعترض طريق العمل على جمع الفرقاء على طاولة حوار جادة.. إلا أن هناك الكثير من المؤشرات الإيجابية التي تبشر بخير.. وتدعو -بالفعل- إلى التفاؤل في أن تشهد بلاد الحرمين عما قريب مصالحة تاريخية على هذا المستوى الكبير من الأهمية..

•• جمع الله الإخوة -في أفغانستان- على المحبة كما جمعهم على دين الله الواحد..

•• وكم سنكون سعداء بإنجاز هذا العمل التاريخي الكبير من أجل الشعب الأفغاني العزيز.. حتى تتعزز مكانة هذه الأمة.. وتتضاعف قدرتها على مواجهة الأخطار.. ونقل شعوبها إلى مستقبل أفضل يليق بها وبهم.. ويحسب الآخرون له ألف حساب وحساب.