فاطمة السهيمي

عندما تعيش امرأة في مجتمع غليظ الطبع معقد التركيب خالص الذكورية، ثم لا يمنعها ذلك من أن تحوز قصب السبق، وتتجاوز الرجال والنساء معا في عصرها، وتتبوأ القمة، فهذا يعني أنها امرأة استثنائية.
اشتهرت في أوساط مجتمعها بالطهر والعفاف ورجاحة العقل، وهو أمر لم يجعلها تتوارى عن المشهد الاجتماعي، بل شاركت في صنعه، ووضعت بصمتها التي لا تمحى. اصطدمت في بداية شبابها بوفاة زوجها تاركا لها المال والأطفال، فوجدت نفسها وجها لوجه أمام مسؤوليتين مزدوجتين، إدارة المال وتربية الأطفال وكانت بين خيارين:


إما أن تنفق المال على الأطفال محافظة على مستوى المعيشة الذي كانوا ينعمون بها مع والدهم، وإما أن تضن به خوف النفاد وتحرمهم الحياة الكريمة، وهو أمر مربك لأي امرأة مهما بلغ مستوى تفكيرها وثقافتها وشجاعتها، لكنها لم تكن لتفكر بهذه الطريقة من الأساس، فهي تريد أن تنفق على بيتها وأطفالها وتريد المال أن يبقى كما هو أو يزيد!
نعم كانت تفكر في التجارة، وأشرفت بنفسها على اختيار الأشخاص الذين ينفذون هذه المهمة لها كما ترى وتفكر، ونجحت بالفعل في تشغيل أموالها بإدارتها وبتنفيذ رجال أكفاء تشرف بنفسها عليهم، فحافظت على مستوى المعيشة الكريمة الذي كانت تعيشه وأطفالها مع زوجها وهو حي، ونجحت في إدارة بيتها وتجارتها بنفس الكفاءة، محافظة على سمعتها العطرة بين الرجال والنساء على حد سواء، في نسق متوازن وموازنة مذهلة بين عدد من المتغيرات والتحولات الحياتية المتداخلة، غير أن طموحات تلك المرأة لم تكن لتقف عند هذا، فقد كانت ترنو بعينيها للأفق البعيد وهي ترى أحلامها الكبرى تلوح كبرق خاطف، قادها فكرها المتوقد وطموحها المتسع كأفق رحيب إلى أمر غاية في الخطورة لم يخطر لغيرها من رجال 


ولا نساء، ومضت تطارد هذا الحلم الأثير بحكمة وصبر، وتسير في طرقاته بتؤدة وحذر، وهي تتوقع بزوغ شمسه وتنتظرها كل صباح دون يأس أو ملل، ولم يكن بلوغها الأربعين بعد ذلك عائقا أمام اتساع أحلامها، ولم تخش ردة فعل المجتمع تجاه خطواتها المبللة بالأمل نحو غدها الموعود، وتقرر بشجاعة منقطعة النظير أن تخوض تجربة جديدة، بل تقتحم حياة أخرى ترى في قرارة نفسها أنها تستحق العناء، وتعد للأمر المهول الجلل عدته مبتدئة الطريق من أوله، فكل شيء -كل شيء بلا استثناء- كان يدل على أن الفتى ذي الخمسة والعشرين ربيعا مختلف تماما عن مجتمعه وأقرانه، الأمر الذي مر به الجميع مرور الكرام، وتوقفت هي عنده طويلا وكثيرا، أرسلت خادمها يرافقه كظله ويرصد حركاته وسكناته في رحلة الشاب المكي بأموال سيدة المال والأعمال والعقل، إلى الشام، ولم تكن تلك الخطوة الكبيرة سوى قربان قدمته السيدة النبيلة في سبيل تحقيق الحلم، أو الاقتراب منه، وهكذا كان، فتم الزواج الأشهر في تاريخ الدنيا بأسرها، وتأسس البيت الأطهر عبر التاريخ كله، وولد الحب الخالد مدى الزمان.


ويوما بعد يوم، كانت خديجة تزداد يقينا بأنها تعيش مع إنسان مختلف، وأن النبأ العظيم بات وشيكا على يد هذا الرجل الجميل خلقا وخلقة، الفقير حالا، الغني بمكارم الأخلاق، المتدفق إنسانية، المتوقد حسنا وإحسانا، وتلك لعمري صفات الأنبياء، قطفت خديجة خمسة عشر عاما من الحب، والطهر، والنبل، والنقاء، والسعادة، لكنها لا زالت تحمل سلة الصبر، تنتظر الحدث الأكبر في تاريخ البشرية، وتجهز نفسها للمجد الأسمى الذي تنتظره منذ سنين، حتى عاد إليها الزوج المتأمل المتدبر المتفكر وهو يرتجف من هول ما رأى في غار حراء، ويطلب منها أن تدثره وتزمله، فدثرته بروحها الطاهرة، وزملته بقلبها المنير، واحتوت الموقف العصيب برباطة جأش وثبات. يخولها لأن تصبح المرأة الأقوى في العالم، ومضت يقودها عقلها المستنير إلى ابن عمها ورقة بن نوفل لتأخذ منه التأكيد الأخير بأن أبا القاسم لم يعد محمد بن عبدالله، ولكنه أصبح محمد صلى الله عليه وسلم، قائد البشرية وإمام الإنسانية وخاتم الأنبياء والمرسلين، وهكذا كان، فشبكت خديجة أصابعها مستبشرة وكأنها تقبض على المجد الذي انتظرته خمسة عشر عاما، وعادت لتسجل بصمة في التاريخ لم يسبقها إليها أحد من العالمين، عندما قالت كلمتها المدوية وهي تطمئن مخاوف النبي صلى الله عليه وسلم وتقول له:
«كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتؤدي الأمانة، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق»، فأصاخت لكلماتها النورانية جبال مكة ووديانها، وخشع الكون وجثا على ركبتيه، وخديجة شاهقة كمنارة، سامقة كنخلة ثابتة كجبل تخطف الشرف الأول على الأولين والآخرين، فتكون أول من أسلم على وجه الأرض، ويتحول بيتها إلى محراب للإيمان، وأول مسجد في الإسلام، وتكون الشخص الأكثر تأثيرا في التحولات الهائلة في التاريخ البشري بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنقش اسمها في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم للأبد، قبل أن تذهب مطمئنة القلب إلى قصرها في الجنة !