& عبدالله بن بجاد العتيبي

&

الدول تقوى وتضعف، تصعد وتنزل، والقادة التاريخيون من مؤسسي الدول لهم أثرٌ كبيرٌ في تعديل مسار التاريخ والتأثير القaوي فيه، يصح هذا في كل دولةٍ وأمةٍ وشعبٍ، والتاريخ خير شاهدٍ، وفي التاريخ السعودي قامت الدولة السعودية الأولى على يد الإمام محمد بن سعود، والثانية على يد الإمام تركي بن عبد الله، والثالثة على يد الملك عبد العزيز، ثلاثة قادةٍ تاريخيين غيروا تاريخ السعودية والمنطقة.
في افتتاح ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لـ«هيئة تطوير العلا» رسمياً، وفي لقاء عابر سألت صحافية الأمير: «هل هذه التطويرات تعني الدولة السعودية الرابعة؟»، فكان الجواب مباشراً وواضحاً: «لا، نحن امتدادٌ للدولة السعودية الثالثة».
كلمة فصل ورؤيةٌ حاسمةٌ، وأهم من هذا أنها رؤيةٌ واقعيةٌ صرفةٌ وعقلانية محضةٌ، فالدولة السعودية الثالثة ما زالت تترقى في مدارج الكمال، ولمّا تبلغ أقصاه بعد، وكثيراً ما يردد ولي العهد السعودي: إنكم لم تروا شيئاً بعد، وإننا لم نبتدئ بعد أو نحن في البداية فقط. وهذا كلامٌ واقعي وعقلانيٌ، فالرؤية معلنةٌ والبرامج المساندة لها كذلك، والمستقبل يشرع أبوابه لمن ينجح في التنفيذ وتحويل الرؤى لواقعٍ، وهذا ما يحتاج لوقتٍ طبيعي.


هذا السياق ينطلق من تصريح الأمير لتغطية بعض المبالغات التي تصدر من البعض بسبب المحبّة والحماس وعمق الانتماء والولاء، ولكنها قد لا تكون صحيحة في بعض استخداماتها، ومن ذلك على سبيل المثال اسم «السعودية العظمى»، فهو اسم له أكثر من دلالةٍ، ولكن معناه الأصلي هو أن السعودية دولةٌ عظمى بشكل مطلقٍ في العالم كله، وهذا معنى غير صحيحٍ حين يُقاس على الواقع والمعايير الدولية المعاصرة لحساب قوة الدول.
السعودية دولةٌ عظمى في منطقة الشرق الأوسط، نعم، هذا معنى صحيح، كانت وما زالت وستزداد قوة في المستقبل، وفي العالم العربي، هي دولةٌ قائدةٌ ورائدةٌ، وفي العالم الإسلامي هي خادمة الحرمين الشريفين ومهد الرسالة ومأرز الإيمان لكل المسلمين حول العالم، ومنه دورها التاريخي في محاربة الإرهاب والتطرف، وفي مجال الطاقة هي واحدةٌ من أهم دول العالم بلا منازع، وهي ازدادت قوة بالتوجه الحاسم نحو المستقبل وبنائه وتطويره.
المهم في هذا السياق هو أنه لا أحد من قيادات الدولة السعودية ومسؤوليها الكبار ورجالاتها أشار يوماً إلى أنها دولةٌ عظمى على المستوى الدولي تنازع أقطابه وتغير معادلاته، وهذا كافٍ في إيضاح أن بعض الثناء المخلص ليس بالضرورة أن يكون صائباً، بل إن بعض المبالغة غير الواقعية تكون مدعاةً للتنقص أحياناً لدى البعض، والسعودية ليست بحاجةٍ لأي مبالغاتٍ فما تصنعه اليوم هو صناعة جديدة للتاريخ في السعودية والمنطقة بأسرها.
هذا حديث في محاولة تكريس الوعي الواقعي والعقلاني، لأنه المعين الحقيقي والداعم الأكبر لتحقيق الأحلام الكبار والأهداف المنشودة، ودافع المبالغين هو المحبة والحماس وهو على أي حالٍ خير من طروحات المخذّلين من صُنّاع السخط والإحباط.
هذا كان الحديث عن بعض المبالغة، وأما الحديث عن الإعاقة فهو حديثٌ آخر تماماً، وهو يتعلق بسياسات الدول العظمى في العالم تجاه منطقتنا وتوازنات القوى فيها وتأثير تدخل هذه الدول المعيق أحياناً لأي تغييرات فيها، وأوضح مثالٍ على هذا هو الاتفاق النووي لدول «خمسة زائد واحد» مع النظام الإيراني، الذي عملت عليه إدارة الرئيس السابق للولايات المتحدة باراك أوباما، وقد استطاعت السعودية اجتيازه بالصبر والحكمة والأناة، وسعت جهدها، وهو جهد كبيرٌ لإبطاله وإيضاح قصوره وشره المستطير مستقبلاً، ونجحت في ذلك، لأنها محقةٌ، ولأن شرور النظام الإيراني أوضح من الشمس في رابعة النهار، فألغته إدارة الرئيس ترمب، وأعلن استراتيجيةً جديدةً لمواجهة الخطر الإيراني، وأعاد أميركا لنفسها ولحلفائها التاريخيين في المنطقة، وأصلح الانحراف السابق.


عملت السعودية الجديدة المتجددة جاهدةً بسياساتٍ وقراراتٍ تاريخية في الداخل والخارج للوقوف في موضعٍ جديدٍ يتوافق مع العالم، ويتقدم عليه في بعض الملفات المهمة، من جهة التحديث والإصلاح والتنمية، ومن جهة محاربة الأصولية والتطرف والإرهاب من الجذور، فداخلياً، مشروعات جبارة وشراكاتٌ عالميةٌ مثل «مشروع نيوم» و«هيئة تطوير العلا» وغيرهما، وتطوير يسابق الزمن وإصلاحاتٌ جوهريةٌ وبناء اقتصاد متنوعٍ لا يعتمد على النفط فحسب، ونجاحاتٌ لا تُعد ولا تُحصى.
أما إقليمياً، فالحراك السعودي على قدمٍ وساقٍ؛ تحالفات سياسيةٌ واقتصاديةٌ تبنى، مثل «كيان البحر الأحمر الجديد»، وكيانات قديمة تتمّ مراجعتها وغربلتها، مثل «مجلس التعاون الخليجي»، والموقف الحاسم من قطر ومقاطعتها من أربع دولٍ خليجية وعربية، وتحالفات عسكرية ضاربةٌ، مثل «التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن» و«التحالف العسكري الإسلامي» ضد الإرهاب، والمواجهة الحاسمة للمشروع الإيراني إقليمياً ودولياً، وعملياً في كل الدول العربية التي تمدد فيها.


ومن أمثلة الإعاقة موقف الأمم المتحدة من اليمن، فهو موقفٌ يبدو مدللاً ومجاملاً للحوثي، وكلما ارتكب فظاعة كانت التغطية الأممية جاهزةً، وكذلك الدول الأوروبية والموقف المتخاذل من النظام الإيراني التي لم تزل تختار البقاء في الاتفاق النووي وتطور موقفها قليلاً تجاه الصواريخ الباليستية التي قد تصل إلى أوروبا، وهو أكبر نظام داعم للإرهاب ولنشر الفوضى والتخريب، ولكنها بالمقابل تقيم الدنيا ولا تقعدها على مسائل صغيرة ضد السعودية.
ومن آخر أمثلة الإعاقة ما أقدَمَتْ عليه المفوضية الأوروبية من وضع السعودية واثنتين وعشرين دولةً أخرى على لائحتها للدول المقصّرة في مكافحة غسل الأموال، وهي لائحة لم تُقرّ بعد، وتعارضها دول كبرى في العالم، على رأسها أميركا، ولكن إصدار هذه اللائحة بحد ذاته عملٌ معيقٌ ومخالفٌ لما تعترف به مؤسسات دولية أهم من دور السعودية القوي والفعال في هذا المجال.
أخيراً، فمع التأكيد على أن ثمة تركيزاً على السعودية الجديدة واختلاق القضايا ضدها، إلا أنه ليس جديداً ولكنه في تصاعدٍ وازديادٍ، وهو دليلٌ على وجود خصوم كثر حول العالم وأن الخصوم الإقليميين وحلفاءهم لم يزل لهم تأثير هناك، وأن المواجهات الإقليمية لها امتدادات دوليةٌ، وأن الدخول في لعبة الكبار والموضع الذي تختاره الدول لنفسها ولمصالحها والقدرة على التجدد والفعالية تحدد قدرتها على الارتقاء والصعود.
&