أكرم مكناس&

عادت موجة الاحتجاجات لتتصاعد في فرنسا من قبل ما يسمى بأصحاب «السترات الصفراء»، وذلك احتجاجا على تردي الأوضاع الاقتصادية بشكل عام، في مؤشر يدل على عدم جدوى حلول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المتعلقة بتخفيض الضرائب على الفقراء وتقديم حزم جديدة من الدعم.

إن خروج الإنسان إلى الشارع، يحتج ويصرخ ويتعارك مع رجال الأمن ويعرض نفسه للخطر، دليل على أنه وصل إلى حد الانفجار، ولم يعد لديه شيئا ليخسره. ولا شيء يدفع الإنسان لفعل ذلك أكثر من الجوع، بعد أن استنفد جميع طاقته وصبره، ولم يعد قادرا على تلبية حاجاته وحاجات أطفاله الأساسية من مأكل وملبس ومأوى.

إن احتجاجات الشعب أو فئة من فئاته من أجل تحقيق مطالب سياسية أو اجتماعية أو حقوقية، لا تقارن أبدا بمستوى الاحتجاجات الناجمة عن الفقر والجوع، ويمكن لأي إنسان أن يكسر حاجز الخوف من أي سلطة أو قانون عندما لا يجد ما يسد به رمقه.

أخشى أن العالم الآن يسير في طريق الانفجار الذي سينجم بلا شك عن الخلل الرهيب في توزيع الثورة، خاصة إذا عرفنا أن مليارديرًا أمريكيًا واحدًا مثل بيل غيتس أو جيف بيزوس يملك من الأموال ما يعادل ميزانية عدة دول أفريقيا مجتمعة. شخص واحد يملك أكثر من مئة مليار دولار، فيما مئات ملايين الأشخاص حول العالم يعيش الواحد منهم على أقل من دولارين في اليوم!

هناك برامج وأنظمة تمثل صمامات أمان تمنع انفجار المجتمع نتيجة تكدس الثروة في أيدي عدد قليل من الناس النافذين، فالإسلام أوجد نظام الزكاة لإعادة توزيع جزء من فائق أموال الأغنياء على الفقراء، وهناك الصدقات، والتكافل الاجتماعي، وفي العصر الحديث ظهر مفهوم الضرائب، فمن يكسب أكثر عليه أن يدفع أكثر.

إن النظام الضريبي الشفاف والعادل في دول مثل فنلندا والسويد جعل شعوب تلك الدول هي الأكثر سعادة على وجه الأرض، فمعدلات الفساد تكاد تساوي صفرا، وليس هناك تعديات على المال العام، وكثير ما نشاهد المسؤولين في تلك الدول يأتون إلى أعمالهم بواسطة دراجة هوائية وليس مواكب فخمة، علما أن بلادهم تصنع أكثر السيارات رفاهية في العالم.&

إن مؤشرات الفساد العالمية تصنف الدول الأكثر فقرا مثل العراق وسوريا وبعض الدول الأفريقية في ذيل القائمة، فتصبح المشكلة ليست بالموارد وإنما بنهب تلك الموارد، حيث تنعم طبقة سياسية فاسدة بأطنان من الأموال، فيما يرزح باقي الشعب في فقر مدقع، والمشكلة الأكبر هنا هي أن هؤلاء السياسيين الفاسدين يخبئون ويستثمرون أموالهم في مشروعات تنموية خارج بلادهم لا تستفيد منها شعوبهم.

وعندما يصل غول الفساد إلى قطاعات حيوية مثل الأدوية أو حليب الأطفال، تصبح المسألة هنا مسألة حياة أو موت، لكن من يهتم؟ ليس أهم من المال سوى الحصول على المزيد من المال. الفساد لا يقتصر على مسؤولين حكوميين، فهناك منظمات عالمية كبرى ينخرها الفساد، مثل منظمة الفيفا التي طالما اتهم مسؤوليها على مختلف مستوياتهم بتلقي رشاوي والتستر على ممارسات رياضية غير أخلاقية وتعاطي المنشطات والتواطئ مع شركات النقل التلفزي والإعلانات وغير ذلك.

والأسبوع الفائت فقط أعلن مكتب التحقيقات الفدرالي أن جامعات أمريكية عريقة قبلت طلابا فيها بغير وجه حق، فقط لأنهم أولاد مسؤولين وأثرياء.

العديد من الزعماء العرب أمثال معمر القذافي وصدام حسين وحافظ الأسد شق طريقه وسط «الجماهير الكادحة» وصولا إلى السلطة، وبدأ حياته على كرسي السلطة، متحمسا لفئات الشعب التي رأت فيها أملها في الخلاص من الفساد والظلم والاضطهاد، ولكن بمرور السنين غرق هؤلاء الزعماء في السلطة ونعيمها، والفساد والإفساد، وتركوا المركب تسير على هواها، إلى أن وصلت بلادهم إلى حالتها الراهنة، وها نحن جمعيا ندفع الآن ثمن دكتاتوريهم وعنجهيتهم.

وما يثير الاستغراب والسخرية في آن معا، هو أن أولئك الزعماء طالما أكدوا أنهم يريدون بناء جمهوريات ديمقراطية شعبية السيادة فيها للشعب، ووصفوا غيرهم من الأنظمة بـ«التخلف والرجعية والتبعية للاستعمار»، لكنهم قتلوا من شعوبهم عبر قوى حزب البعث والحرس الجمهوري وغيرها ما لم يقتله الاستعمار، كما أنهم هم من جلبوا الاستعمار إلى بلادهم في نهاية الأمر، والمثل يقول «الطغاة يجلبون الغزاة».

بالمقابل، لا بد بالفعل من أن أشيد بما تبذله دول الخليج العربي من جهود من أجل دعم مواطنيها في الصحة والتعليم والإسكان والتوظيف وغيرها، ورفع معدلات التنمية في كل المجالات، جنبا إلى جنب مع حفظ الأمن والاستقرار والتصدي ليس للمتطرفين والخلايا الإرهابية فقط، وإنما أيضا للدعوات المشبوهة بشأن ضرورة تطبيق الديمقراطية والحكم الرشيد على الطريقة الغربية، والتي تبدو في ظاهرها دعوات ونصائح عملية محقة، لكن تطبيقها سيحمل معه هزات عنيفة في تركيبة المجتمع وتراتبية مؤسساته، وهو ما نحن بغنى كامل عنه. ولتلتفت دول الغرب مثل فرنسا وغيرها لحل مشاكلها، ولدينا الكثير من النصائح التي يمكن أن نقدمها لها، لكننا لا نتدخل في شؤون غيرنا.

اعتقد أننا أصبحنا الآن بحاجة أكبر لإصلاح النظام العالمي، الاقتصادي والاجتماعي على الأقل، وإعادة هيكلة المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي وغيرها، ويكفينا هدرا للوقت والموارد على برامج مثل «أهداف التنمية المستدامة» التي جاءت على انقاض «أهداف الألفية» التي لم تحقق شيئا يذكر، ولنستثمر سهولة الاتصال والتواصل العالمي في إعادة هندسة قريتنا العالمية بشكل نضمن فيه للجميع حياة كريمة.