& &خالد العضاض

في يومين من أيام الله الخالدة في بلد النور ومنار الهدى المملكة العربية السعودية، كتب الله أن يعيش موطن الأمجاد فصلين أبيضين من فصول الشجاعة والعدل، ففي يوم الأحد 16 شعبان 1440، تصدى رجال أمن الدولة لهجوم غادر في محافظة الزلفي من قبل بعض من تبنى فكر الضلال والزيع، وفي يوم الثلاثاء 18 شعبان 1440، نفذت وزارة الداخلية حكم القتل

تعزيرًا في عدد من الجناة لتبنيهم الفكر الإرهابي وتشكيل خلايا إرهابية للإفساد والإخلال بالأمن وإثارة الفتنة الطائفية والإضرار بالسلم والأمن الاجتماعي.

وسأمهد لفكرة المقال ولبه، بقصة كئيبة غريبة، أوردها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتابه: (تاريخ الرسل والملوك)؛ المعروف بتاريخ الطبري (الطبعة الثانية، 1967، القاهرة، دار المعارف، 10/‏100)، تحت أحداث 290 للهجرة، حيث ذكر أبو جعفر -رحمه الله- حكايةً عن رجل متطبب يدعى أبوالحسن أنه قال: (جاءتني امرأة بعدما دخل القرمطي صاحب الشامة وأصحابه بغداد، فقالت لي: إني أريد أن تعالج شيئًا في كتفي، قلت: وما هو؟ قالت: جرح، قلت: أنا كحَّال؛ وها هنا امرأة تعالج النساء، وتعالج الجراحات، فانتظري مجيئها، فقعدت، ورأيتها مكروبة كئيبة باكية، فسألتها عن حالها، فقالت: كان لي ابن غاب عنّي، وطالت غيبته، وخلّف عليّ أخوات له، فضقت واحتجت. واشتقت إليه، وكان شَخَصَ إلى ناحية الرقة، فخرجت إلى «الموصل» وإلى «بَلَد» وإلى «الرقة» في طلبه، فوقعت في عسكر القرمطي... إلخ)، وملخص القصة، أنها عثرت على ابنها بالمصادفة في ذلك المعسكر، فأخذها إلى منزله هناك، وأخذ يسألها عن حالها وحال أخواته، فأخبرته بما كان، فقال دعيني من هذا وأخبريني ما دينك؟ فقلت: يا بني أما تعرفني!، فقال: كل ما كنّا عليه باطل، والدين هو ما نحن فيه الآن، فكبر ذلك على الأم، واشتد بها العجب، والحزن، والحنق.

وبعد مدة من الزمن، سأل الابنَ رجلٌ من قومه أولئك إن كانت الأم تحسن من أمور النساء شيئًا؟ فقالت الأم: نعم، فمضت مع الرجل، وأدخلها على امرأة في المخاض، فأقامت على أمرها حتى ولدت غلامًا، وجعلت الأم تتلطف معها وتعتني بها وبولدها، والمرأة لم تكلمها بكلمة واحدة قط من دخولها عليها، حتى قالت لها الأم: إن حقي وجب عليك، فأخبريني خبرك ومن والد هذا الصبي، فقالت لها المرأة: تسألينني عن أبيه لتطالبيه بشيء يهبه لك! فقالت لها الأم: لا، ولكن أحبُّ أن أعلم خبرك، فقالت المرأة، وكانت من أجمل النساء وجهًا: إن هؤلاء القوم أتونا، فذبحوا أبي وأمي وإخوتي وأهلي جميعًا، ثم أخذني رئيسهم، فأقمت عنده خمسة أيام، ثم دفعني إلى أصحابه، وقال: طهروها، فأرادوا قتلي، فبكيت، فقال أحد قواده: هبها لي، فوهبني له، وكان بحضرته حينها ثلاثة أشخاص من أصحابه، فسلوا سيوفهم، وقالوا: لا نسلمها إليك؛ إما أن تدفعها إلينا، وإلا قتلناها، فلما اختلفوا وضجوا، خرج عليهم رئيسهم، وقال: تكون لكم أربعتكم، فأنا مقيمة معهم أربعتهم، ووالله ما أدري ممن هو هذا الولد منهم!، ولما حلّ المساء ورد على المرأة أربعة رجال، كلما دخل عليها رجل أمرت المرأةُ الأمَ أن تهنئه بالولد، فيهبها سبيكة فضة، حتى جاء آخرهم، وكان في معيته أتباع، وهو إلى ذلك أكثر أبهة من سابقيه، فهنأته المرأة باحتفاء أكثر، واهتمام أكبر، فأغدق عليها العطاء. وبعد أن رأت الأم ما رأت، قالت للمرأة: بحقي عليك خلصيني مما أنا فيه، وقصت عليها قصتها مع ابنها، وأنه لم يعد لها رجاء فيه بعدما قال ما قال، وأنها تريد أن تنفذ من هذا المكان بأسرع ما يمكن حتى تصل إلى بناتها الضعاف اللاتي لا يليهم بعد الله غيرها، فقالت المرأة: عليك بالذي جاء آخرهم، هو من يستطع أن يخلصك، فلما جاء المساء الآخر وحضر الرجل، تقدمت إليه الأم وقالت له: إن لي بنات ضعافا فقراء، فلو أذنت لي أن أمضي فآتي بهن ليكن في خدمتك، فأغراه ذلك الأمر، وأمر غلمانه أن يسيروا بالأم حتى موضع معين، ويتركوها ويرجعوا، حتى لا يدركهم جند الخليفة، وبينما هم ماضون إذ لحق بهم الابن «الضال»، وأهوى على أمه بالسيف ليقتلها فمنعه الغلمان، ووقع السيف على طرف كتفها فجرحها جرحًا بالغًا، وأمسك الغلمان بالابن، ومنعوه من ملاحقتهم أو التعرض لها بأذى، حتى وصلوا للموضع المراد وتركوها هناك، وجاءت إلى بغداد طلبًا للعلاج، وقبل الوصول للكحال، رأت ابنها -وقد قبض عليه وعلى رهطه جند الخليفة- يساق على جمل، باكيًا كسير العين كسيف الحال).

وما أشبه اليوم بالبارحة، إذ تحكي هذه القصة ذلك التلازم النكد في عقول القوم بين حل الدماء وحل الأبضاع، وكأن الأمر لعبة، وكأن الله لم يعصم دمًا البتة، ولم يأمر بصيانة عرض قط.

يفصلنا زمنيًا عن هذه الحادثة بالضبط 1150 سنة إذ إنها جرت في شهر شعبان من عام 290 للهجرة، هذا الفكر يسري في مفاصل التاريخ وينتقل عبر الزمان من جيل إلى جيل، خَفَت في فترات وظهر في أخرى بل وسيطر وأحكم قبضته على مقدرات البلاد ورقاب العباد، فنحن لسنا أمام فلتة من فلتات الزمان، ولسنا أول من عانى من نير الإرهاب والتطرف، والحلول أمامنا ولكننا نتعامى عنها في كل مرة، ونلجأ لمعالجة الأثر، ومكافحة الفعل عبر ردة الفعل فحسب.

وهذا لا يعين التقليل من الجهد الجبار الذي قامت به الدولة ممثلة في أجهزتها السياسية والأمنية، التي وقفت وقفة حاسمة في وجه الإرهاب، وبشكل فاعل ومبرم، إنما الذي أعنيه أننا لم نقف الوقفة ذاتها ضد التطرف.

إن التفريق بين الإرهاب والتطرف مسألة مهمة في تفكيك هذا البلاء المدمر، فالتطرف مرتبط بالفكر والإرهاب مرتبط بالفعل، حيث إن التطرف موصول بمعتقدات وأفكار بعيدة عما هو معتاد ومتعارف عليه دينيًا واجتماعيًا وسياسيًا، دون أن ترتبط تلك المعتقدات والأفكار بسلوكيات مادية عنيفة في مواجهة المجتمع أو الدولة، أما حينما ترتبط بفعل فذلك هو الإرهاب.

الثغرة التي يجب أن تسد هي أن التطرف لا يعاقب عليه النظام ولا القانون باعتبار أن القانون لا يعاقب على النوايا والأفكار، ومن هنا تستمر الجذور المغذية للإرهاب، والذي يفيق أحيانًا ويضرب ضربته، ويحني رأسه حينًا آخر، في حالة أشبه بالموت.

التطرف في السعودية، على فراش المرض، ولم يمت بعد، وأتمنى ألا نضطر إلى أن نطلق عليه العبارة الشهيرة: (التطرف يمرض ولا يموت)، ولن يموت التطرف وقد تم زرعه عبر عقود في البنية المجتمعية بتأثير من تيارين فكريين: مُكن لهما واستأثرا بمنابر التوجيه والتربية والتعليم والتوعية والتثقيف، وهما: تيار الفكر السلفي التكفيري، وهو فكر إقصائي قميء يشكك في معتقدات المسلمين، ويتهمهم بالضلالة والابتداع والانحراف. والثاني: الإسلام الحركي السياسي، بشقيه الإخواني والسروري.

أخيرًا، وحتى نقي مجتمعنا من التطرف، يجب أن نعيد النظر في إستراتيجيات مكافحة التطرف، ولا أقول الإرهاب، إذ إن الجهود في هذا الأخير لا يعلى عليها.