& عبد الرحمن شلقم

&

مسلسل تلفزيوني ليبي عُرض في رمضان، ألقى بقعاً من الضوء على حلقة في تاريخ ليبيا. كانت مشاهد المسلسل في منطقة صغيرة من مدينة طرابلس ـ المدينة القديمة ـ عنوان العمل «زنقة الريح»، وهي شارع صغير جداً بتلك المدينة يصور مرحلة فترة الوجود البريطاني في ليبيا بعد الحرب العالمية الثانية. تلك أول محاولة ليبية لإنتاج عمل كبير يستعيد درامياً حلقة من حلقات التاريخ الليبي الحديث. بلا شك كانت به هنّات كثيرة من الناحية الفنية، لكن المنحى الإيجابي أنه كان إطلالة على مرحلة مهمة استعادت ما مضى، وألقت أضواء على مرحلة جاءت فيما بعد. قراءة التاريخ قديمه وحديثه صارت محدودة في زماننا هذا، والعمل التلفزيوني له متابعون من دون شك من شرائح عمرية مختلفة، ويشجع الجيل الجديد على الالتفات إلى ما كانت عليه الحياة في أيام خلت. اختلف الجمهور حول مضمون المسلسل سواء من حيث الشكل أو المضمون، وأرى ذلك في حد ذاته إيجابياً؛ لأنه دليل على الاهتمام بالتفاصيل وسعة المتابعة التي جمعت بين المتعة والتقييم. جرت أحداث المسلسل في مساحة صغيرة من مدينة طرابلس هي المدينة القديمة التي كانت محور الحياة في العهد التركي وبداية تأسيس طرابلس الحديثة. خاصية المكان أنه جمع عبر سنوات طويلة مجموعات عرقية ودينية كثيرة ومختلفة، عرباً مسلمين ويهوداً ومالطيين وإيطاليين وأتراكاً. الموانئ في أغلب دول العالم لها ميزة الاختلاط والتنوع والتعايش. منذ أواسط القرن التاسع عشر عاشت طرابلس حلقات تفيض بالمغامرة والعنف والقلق، وبخاصة في العهد القره مانلي، وتحديداً تحت حكم الشاب العنيف والمغامر يوسف باشا القره مانلي.
كانت المدينة ملتقى لبلدان البحر الأبيض المتوسط والأقطار الأفريقية، كل ذلك ترك أثراً طال واتسع في خيوط النسيج الاجتماعي.

تذبذبت سيطرة المدينة العاصمة على أرجاء البلاد الليبية، وكذلك تبعيتها لمركز الدولة العثمانية، لكن التدخل الأجنبي، وبخاصة الأوروبي لم ينقطع في أغلب المراحل.
مسلسل «زنقة الريح» تحركت أحداثه في قوس زمني في العقد الخامس من القرن الماضي، حيث تولت بريطانيا إدارة برقة وطرابلس، وفرنسا إدارة إقليم فزان بعد هزيمة إيطاليا وخروجها من ليبيا. يمكن قراءة مضمون العمل التلفزيوني رغم محدودية المكان على أنه يمثل «حالة ترميز» تحتوي التاريخ وتغوص في تكوين اجتماعي وثقافي متنوع ومتحرك في الوقت ذاته، فهو ليس عملاً توثيقياً، بل هو إبداع درامي شامل. بلا شك، فإن العمل سيفتح باباً لأعمال لاحقة للدراما التاريخية الليبية ولها مخزون هائل من كثافة الأحداث واتساعها وتنوعها وحركتها. في «زنقة الريح» نال الوجود اليهودي مساحة ليست بسيطة، سواء من حيث الوقت أو الفعل في مسار الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ ذلك ما دفعني إلى إعادة قراءة كتاب «أسفار في شمال أفريقيا» لمؤلفه اليهودي الدكتور ناحوم سلوشز، وهو فرنسي من أصل يهودي وأستاذ الدراسات اليهودية في جامعة السوربون الفرنسية وعضو أكاديمية الآداب والوثائق الفرنسية. الكتاب ترجمه الأستاذ الطيب الزبير في 380 صفحة.

الكاتب زار ليبيا في عام 1909 في عهد الوالي رجب باشا، وكان عضواً في البعثة التي أرسلتها منظمة المؤتمر اليهودي العالمي إلى الجبل الأخضر في ليبيا لدراسة مدى صلاحيته ليكون وطناً قومياً لليهود. وكان للدكتور ناحوم سلوشز قناعة، وهي أن بلدان المغرب الكبير وما فيها من بشر وآثار ومعالم عمرانية هي نتاج حضارة يهودية، ونسب جذور كثير من القبائل في البلاد إلى أصول يهودية. يقول ناحوم في الفصل الأول من الكتاب صفحة 15: «خلال إقامتي بالمدينة كان سكانها البالغ تعدادهم أربعين أو خمسين ألف نسمة يتكونون بالإضافة إلى السكان الأصليين، من البربر واليهود وعدد من المالطيين المسيحيين الذين يتحدثون العربية، ويونانيين بالإضافة إلى الإيطاليين الذين يتوقعون احتلال إيطاليا للبلاد، وأن تعداد يهود طرابلس يتجاوز أربعة عشر ألف نسمة يقيمون داخل حي خاص بهم يسمى الحارة»، فحسب تقدير ناحوم أن اليهود كانوا يشكلون ربع سكان المدينة، وإذا خصمنا من العدد الإجمالي للسكان القوميات غير العربية فإن نسبتهم تصبح أكثر من ذلك. وفي سياق وقفاتنا مع كتاب المبعوث اليهودي ناحوم لا بد أن نحمل معنا طبيعة المهمة الأساسية التي جاء من أجلها إلى ليبيا بتكليف من منظمة المؤتمر اليهودي العالمي، وهي إقامة وطن لليهود بمنطقة الجبل الأخضر ببرقة. توظيف التاريخ والدين والوجود البشري على الأرض كانت مرتكزات ثابتة في مسار الحركة الصهيونية، بل إن ناحوم في كتابه أضاف مضموناً آخر، وهو مساهمة طرابلس في تأسيس أصول الديانة اليهودية، وقد كان من المتحمسين لإقامة الوطن اليهودي بليبيا.
الأصوات التي كانت تصر على إقامة الدولة اليهودية في فلسطين يؤسسون مشروعهم على مرتكزات تاريخية ودينية تتداخل فيها الأساطير مع نصوص من التوراة. الإيطاليون المدنيون الذين عاشوا بليبيا وأغلبهم بمدينة طرابلس لم يغادروا مع القوات الإيطالية التي غادرت البلاد بعد الهزيمة. بقوا في البلاد يمارسون التجارة والصناعة والزراعة وتعايشوا مع الليبيين ومع الجاليات الأخرى.

تولى البريطانيون الإدارة والأمن وأقاموا علاقات مع بعض الشرائح الاجتماعية وبخاصة بعض عناصر الصفوة. بعد قرون من التبعية للأتراك والمعاناة تحت الاستعمار الإيطالي، بدأت هبّة الاستقلال وتشكلت الأحزاب السياسية التي تدافعت للعمل من أجل الاستقلال. من بين العناصر الأمنية والسياسية البريطانية أشخاص يتحدثون العربية ولهم معرفة بالتكوين النفسي والثقافي للعرب. المدينة القديمة بطرابلس كانت تكويناً بشرياً فريداً في مرحلة تفاعلت فيها تراكمات السنين بمزاج لم تغب عنه التقاسيم التي رسخها الماضي المتنوع. رغم اختلاف العقائد الدينية والهويات العرقية التي أضاف لها الحاكم البريطاني الجديد، فقد ظلت خيوط الترابط بين أهل الحارة لها فاعلية استمرار متعة نمط الحياة الموروث، التجارة نشاط اقتصادي وله طقوس اجتماعية، وكذلك المناسبات الدينية، ومنظومة التواصل بين المكونات الاجتماعية لها خريطة لم تفقد ألوانها المزخرفة رغم حالات التوتر التي تهز خطوطها. لقد كان صخب الحياة كما ساد في المسلسل موسيقى تعزفها أوبرا تجمّع فيها حشدٌ متعدد الأصوات، وارتفعت فيها إيقاعات ونبرات متنوعة ترتفع وتنخفض على خشبة المعاناة والتدافع، لكن تبقى مساحة التعايش قادرة على البقاء.
«زنقة الريح»، الدراما التاريخية التلفزيونية كانت حقبة مضافة من حيث إعادة الحياة مرئياً إلى تاريخ ليس ببعيد، كثّف استدعاء تفاصيل حياة معتادة تخللها تفاعل حركة الناس في مسار حياتهم اليومية مع عناوين كامنة لآتٍ سياسي واجتماعي تحركه قوى داخلية وخارجية.
استدعاء التاريخ عبر أعمال درامية تحمل عناوين محلية ضيقة سبقت إليه السينما والتلفزيون في مصر بأعمال كبيرة، مثل «ليالي الحلمية» و«بوابة المتولي»، وكذلك مسلسل «باب الحارة» السوري، ولكل عمل من تلك الأعمال لونه ومذاقه لتنوع الأحداث والموروث الاجتماعي والثقافي والسياسي. التاريخ الليبي القديم والحديث قُدّمت عنه أعمال محدودة، لكنه ثري بكثافة أحداثه وخصوصيتها، به الكثير من الزنقات والرياح والمدن والواحات والجبال والصحراء، تداخلت فيه الحقب وتنوعت على امتداد الزمان والأرض.