& سام منسى

&

خلصت مقالتي السابقة في «الشرق الأوسط» بعنوان «اجترار الفشل» بسؤال حول ما إذا كانت الأطراف المشاركة في اجتماع لمناقشة الوضع في سوريا (الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل) باتت على قناعة بأن لبنان أصبح جزءاً من إيران؟ الهدف من هذه الإعادة هو التذكير بسلوك إيران القديم – الجديد، المبني على خلق أمر واقع يصبح مع الوقت مسلماً به، لتنطلق منه وتبني عليه.
فممارسات إيران وحلفائها في لبنان والمنطقة بثمانينات القرن الماضي، كانت تعتمد على أسلوب التسبب بأزمة ما للسعي لاحقاً إلى حلها عبر المساومة، كما حصل مع خطف الأجانب، وأما إطلاقهم أو تصفيتهم فبحسب مسار عملية الابتزاز. واعتمدت إيران هذه السياسة أيضاً إبان مفاوضات الاتفاق النووي،

بحيث إنها باعت جلد الدب قبل اصطياده، فهددت بالوصول إلى قدرات نووية حتى تبيعها مقابل السكوت الأميركي والغربي بعامة عن تمددها الإقليمي، الذي توسع وتمكّن بعد توقيع الاتفاق. واعتمدتها أيضاً في الإمساك بورقة «بعبع الجهاديين» في أكثر من مكان، لتساوم عليها فيما بعد.
ما تشهده منطقة الخليج من قصف شبه يومي للمطارات في السعودية، واعتداءات متكررة ومتصاعدة على سفن في مياه الخليج، يدخل في سياق هذه السياسة، ويخشى أن يتحول إلى وقائع يومية، لتصبح مادة للأخبار والسجالات السياسية ولتصريحات الشجب والتهديد في حد أقصى. والمؤسف أن النقاش يدور اليوم حول مسؤولية إيران عن الهجوم ضد ناقلتي النفط في خليج عُمان من عدمها، بدلاً من أن ينصب حول تداعيات هذا الهجوم، والرسالة التي تريد طهران توجيهها عبره.
يبدو أن طهران وجراء مزيد من الضغوط عليها، تلجأ إلى مناوشات ومناكفات للخروج من مأزقها، ولن يكون مخطئاً من يعتقد أنها تستدرج من وراء هذا السلوك عروضاً أميركية تأتيها من وسطاء. فطهران تراهن على أن إدارة ترمب لن تخوض صراعاً طويل النفَس والسباق الانتخابي الرئاسي على الأبواب، والرئيس ترمب يجهد للعودة إلى البيت الأبيض لولاية ثانية. وكالعادة، تنتهج إيران سياسة التضليل عبر توزيع الأدوار بين ظرافة الوزير ظريف، وابتسامة الرئيس روحاني المصطنعة، والتشدد في القول للمرشد، والضربات التخريبية التي يقوم بها «الحرس الثوري» والميليشيات الإقليمية التابعة له، دون أن نستبعد أن تكون لإيران مصلحة في اشتباك عسكري محدود يسبق تسريع التفاوض، فيأتي هذا الأخير خاتمة له تتباهى بها إيران. كما ثمة شكوك من أن ترفع إيران وتيرة استهدافاتها لتطال مصالح أميركية، أو تلجأ عبر عملائها إلى ممارساتها المعهودة، كاختطاف موظفين أميركيين أو غربيين، لا تلبث أن تساعد على إطلاقهم بغية جر الأميركيين إلى مفاوضات من الند إلى الند، وبلا وساطة ووسطاء، منها في الكواليس ومنها في العلن. فإيران تسعى بذلك إلى انتزاع اعتراف أميركي بشرعية نظام الخميني، مقابل إعادة «دوزنة» الاتفاق النووي، والمناورة والدعوة إلى اتفاقات أمنية إقليمية وغيرها، تطمئن حلفاء واشنطن وأصدقاءها التقليديين في الشرق الأوسط.

في المقابل، صحيح أن أميركا سارعت بإدانة الهجوم على السفن في خليج عُمان، وجاء اتهام إيران بالوقوف وراءها دون تلكؤ ولا تردد، مقابل عنوان عريض، هو أن كل الخيارات مطروحة على الطاولة. فالرئيس ترمب أجاب رداً على سؤال حول هذا الموضوع بكلمتين: واحدة «سنرى»، والثانية: «لا عجلة»، في شبه تناسق مع الجيش الأميركي الذي رأى أن لا ضرورة لحرب جديدة في منطقة الخليج، فيما يبدو اعتماد التأني، لا خوفاً من إيران، ولكن لحسابات أميركية داخلية وخارجية لا مجال لتعدادها.
بدَر على لسان الرئيس ترمب إبان لقائه مع رئيس الوزراء الياباني، أن «الأضرار التي لحقت بالولايات المتحدة من إيران هي نتيجة للاتفاق النووي الذي أبرمه الرئيس السابق باراك أوباما»، والخشية هذه المرة أن تقع هذه الإدارة مرة جديدة، وعلى غرار سابقتها، في الخطأ الفادح، أي باختصار الأزمة في الاتفاق النووي على حساب أدوار إيران الجامحة، وتدخلاتها المندد بها على أكثر من صعيد في دول الإقليم. كما أن في رده على الهجوم الذي استهدف الناقلتين (فوكس نيوز) لم يوجه ترمب أي تهديد بالرد عليها؛ بل على العكس قال: «أنا جاهز للتفاوض عندما يصبحون جاهزين» دون أن يتراجع عن التحشيد العسكري.
في هذه الأجواء، الأسئلة التي تلح على كل محلل، تدور حول فرص واحتمالات اندلاع حرب مفتوحة أو حرب خاطفة بين الولايات المتحدة وإيران.
ما من جواب حاسم وقاطع، إنما يصح القول ترجيحاً إن واشنطن وطهران تدركان معاً أن أفضل الحروب هي تلك التي لا تقع. على الرغم من استعراضات القوة المفتعلة التي تمارسها إيران، أي حرب مباشرة ستكون نتيجتها الأولى انهيار نظام الخميني، وتفكك شرعيته بشكل لن يتمكن بعده من النهوض مجدداً. ولكن احتمال الحرب المباشرة غير وارد، أقله في المدى المنظور، ما يمنح إيران خيارات محدودة هي من قبيل التحرش والمناكفة، كما تفعل اليوم ليس إلا.
فإيران خياراتها مقيدة في لبنان وسوريا؛ لأنها لن تراهن وتلعب بمكتسباتها في هذين البلدين. وهي إذ تدرك عواقب أي مغامرة في حرب قد نعرف كيف تبدأ ولا نعرف كيف تنتهي. أما في العراق، فيبدو أن المجتمع وحتى أوساط المرجعيات الشيعية تناهض أي عمل قد تقوم به إيران، يعرض المصالح العراقية للخطر.
على الصعيد الدولي، أصدقاء إيران ليسوا ممن يعوّل عليهم لإنقاذها. فالأوروبيون لا مصلحة لهم في الحرب، ولكن لا يملكون أوراق الحل. وروسيا لن تحارب من أجل إيران إلا بما يخدم مصالحها. أما الصين، فستعارض أي تحكم أميركي بالقرار الإيراني، كما ستعارض عودة واشنطن إلى دورها التقليدي في حماية إمدادات النفط.

إلا أنه ينبغي أيضاً الاعتراف بأن إيران تمكنت من إيصال أكثر من رسالة؛ الأولى موجهة إلى الداخل والخارج، وتقول إن إيران لا تزال تمتلك زمام المبادرة وأوراقاً عدة، وإن سياسة العقوبات الأميركية غير ناجعة.
الثانية موجهة إلى الأوروبيين ومعهم اليابان، لحثهم على الضغط على الإدارة الأميركية. أما الثالثة فهي تثبيت سيطرتها على ممرات النفط؛ خصوصاً مضيق هرمز، وإثارة الذعر في قلب الجميع من خطر اندلاع حرب، والفوضى التي قد تستتبعها. والرابعة هي رفع سعر النفط، وما قد تستتبعه من تمكينها لتحمل وزر العقوبات.
إنما أيضاً تجدر معرفة ما وراء ضبابية سياسة التشدد القصوى التي تعتمدها الولايات المتحدة تجاه إيران، وما هي أهدافها، في الوقت الذي باتت معه واشنطن مدعوة إلى الحسم في الخيارات، في أعقاب إدانتها بعد طول تأنٍّ التعديات الإيرانية على ناقلات النفط، وإطلاق الصواريخ عبر منصات الحوثيين على أهداف سعودية.
المواجهة مستمرة مع إيران، إنما الخشية من مفاجآت ليست بالضرورة سارة لطهران أو لحلفاء واشنطن في المنطقة. الخشية من تسوية ناجحة أميركياً، ولترمب نفسه؛ لكنها تحمل أضراراً جمة على حلفائه في المنطقة، وأن يدور ترمب على نفسه ويمنح إيران صك براءة وغفران، على ما اقترفته في حق أميركا وحلفائها ومصالحها.