& علي العميم

&

عثرت على إشارة أخرى من العقاد إلى اسم سيد قطب في مقال عنوانه (من طرائف المفارقات في بلد المفارقات)، منشور في مجلة (الرسالة) بتاريخ 23/ 8/ 1943، يرد فيه على آنسة أديبة صحافية لم يسمِّها. فلقد قال في فقرة من هذا المقال: «تلك طرائف آنسة في حديث الذكر والأنثى. ولهذا الحديث طرائف أخرى في (رجل) كشفه الأستاذ السيد قطب، وقال هو عن نفسه إنه يفخر بمشابهة المرأة تكوينها. هذا الرجل يقول لنا: وأنا أحب أن يعلم الأستاذ قطب، وأن ينقل إلى الأستاذ الكبير العقاد، أن الحياة البشرية ليست من البساطة بحيث يظنان... وقديماً زعم اليونان أن الآلهة عند خلقها للبشر لم تخلق الرجل والمرأة دفعة واحدة، بل خلقت أعضاء مختلفة ثم جمعت بين تلك الأعضاء لتسوي الرجل والمرأة، وهي لسوء الحظ أو حسنه لم تحرص على نقاء الرجل من عنصر المرأة أو نقاء المرأة من عنصر الرجل. ولهذه الخرافة الرمزية دلالتها فليس هناك امرأة كاملة الأنوثة وليس هناك رجل كامل الرجولة... إلى آخر ما قاله هذا الرجل الذي كشفه السيد قطب جزاه الله. ومنتظرون نحن حتى يجشم هذا الرجل نفسه مشقة الرسالة التي بعث بها إلينا من طريق الأستاذ سيد قطب لينقلها إلينا!».
هذا الرجل هو محمد مندور الذي اتهمه سيد قطب بالأنوثة واتهمه بالشذوذ الجنسي في لفظ موارب لتفضيله الشعر المهموس على الشعر الخطابي في المعركة التي دار رحاها في ذلك التاريخ بين هذين الناقدين، وكان البادئ فيها سيد قطب. في هذه المعركة هاجم مندور قطب وهاجم شعره وهاجم شعر أستاذه العقاد اللذين قدمهما قطب بوصفهما نماذج تبز الشعر المهجري المهموس. وكان مندور قبل هذه المعركة حول الشعر المهموس بينه وبين قطب قد خاض أولى معاركه مع العقاد، وهي المعركة التي انتقص فيها من معلومات العقاد حول ابتداء فكرة الرحلة إلى العالم الآخر في الثقافة الرومانية وفي الثقافة اليونانية.

ومن هاتين المعلومتين اللتين سلفتا بوسعنا أن نحكم أن هذه الإشارة الأخرى إلى اسمه من قبل العقاد لم ترضِ طموحه. فهو يعلم أنها أتت بغرض تصفية العقاد حساباً شخصياً مع مندور في معرض رده على تلك الآنسة التي تعالى على ذكر اسمها وتعالى على ذكر اسم مندور. فقطب كان ينتظر بحرقة من أستاذه العقاد أن يحتفي بديوانه الشعري أو بقصة من قصصه أو بأحد كتبه النقدية.
السؤال الذي يهمنا في المقال السابق وفي هذا المقال: من الذي أوحى لمحمد توفيق بركات أن يقحم التونسي مع قطب في مقارنة... هل هو محمد قطب أم أنها مقارنة كانت تجري عند الإسلاميين شفاهة في أول سبعينات القرن الماضي وفي منتصفه أم هي من عند نفسه؟
أضعِّف أنها مقارنة كانت تجري عند الإسلاميين شفاهة في أول سبعينات القرن الماضي وفي منتصفه، فلو أنها كانت كذلك لترددت في تلك السنين كتابة في بعض مقالاتهم التأبينية المتكررة عند سيد قطب في مجلة (الشهاب) في لبنان وفي مجلة (المجتمع) بالكويت. ربما نشأت المقارنة عنده بالأصالة عن نفسه. وربما يكون محمد قطب هو الذي أوحى بها إليه.
أما سليمان فياض، فكما يتبيَّن من مقاله أنه مطلع على كتب محمد قطب وكان يعرفه شخصياً وصلته به كانت صلة قديمة، فهل روى محمد قطب له تلك الرواية أو هو رواها له عن أخيه ونسبها سليمان فياض مباشرة إلى سيد قطب أم أنه قد سمع بها من أحد الإسلاميين أم أنه كان - بالفعل - صادقاً فيما رواه عن سيد قطب؟
اسم محمد خليفة التونسي في الخمسينات والستينات والسبعينات - بخلاف اسم عبد الرحمن صدقي - اسم معروف ومشهور عند الإسلاميين ليس من جهة أنه أديب، وأنه من تلامذة العقاد وحوارييه، وإنما لأنه صاحب كتاب (بروتوكولات حكماء صهيون). فهذا الكتاب كتاب ذائع عندهم وهو من كتب الثقافة العامة التي يوصون أشبالهم بأن يقرأوها قبل أن يصبحوا فحولاً. وهذا الكتاب يعتبر أقدم كتاب تأثر الإسلاميون من خلاله وتبنوا الأدبيات المسيحية الغربية اليمينية المضادة للسامية.
من المسلي في صدد الحديث عن محمد خليفة التونسي الذي أُقحم هو وعبد الرحمن صدقي في مقارنة مع قطب غير مبررة وغير سائغة من الناحية المنهجية والعلمية، أن أذكر هذه المعلومة.
الذين كتبوا عن سيد قطب من الإسلاميين منحوه ألقاباً تبجيلية وتمجيدية ومن هذه الألقاب لقب (الشهيد الحي) الذي منحه إياه صلاح عبد الفتاح الخالدي في رسالته للماجستير عنه، والتي حين طبعها في كتاب جعل من ذلك اللقب عنواناً لها.
صلاح عبد الفتاح الخالدي خصص بعد صفحات المقدمة أربع صفحات شرح فيها انطباق اسم سيد عليه، لأنه كان سيداً!!! وانطباق اسم قطب عليه، لأنه كان قطباً!!! وانطباق الشهيد الحي عليه «بالمعنى الكبير لكلمتي الشهادة والحياة، لا بمعناهما الضيق، المتبادر إلى أذهان بعض الناس عند إطلاقهما!!!». ثم ذكر مسوغاته في إطلاق هذا اللقب عليه لكنه لم يذكر أنه قد سلب هذا اللقب من محمد خليفة التونسي الذي كان قد قلل من شأنه، ومنحه لـ«سيده» و«قطبه» سيد قطب!
يقول التونسي في كتابه المذكور: «وشاع أنه ما من أحد ترجم هذا الكتاب أو عمل على إذاعته بأي وسيلة إلا انتهت حياته بالاغتيال أو بالموت الطبيعي ظاهراً، ولكن في ظروف تشكك في وسيلته، وأفزعت هذه الشائعة بعض الناس ومنعتهم ترجمته، ومن ذلك أن جريدة (الأساس) - إحدى جرائدنا المصرية - تمكنت في سنة 1946 من الحصول بوسيلة صحافية على نسخة للبروتوكولات مكتوبة بالآلة الكاتبة لقاء ثمانين جنيهاً، ودفعت بالنسخة إلى الأستاذ (أ.م) أحد المترجمين فيها، وطلبت منه ترجمتها لقاء أجر إضافي كاف لإغرائه، فأحجم عن ترجمتها برهة، بعد أن بلغته تلك الشائعة وسأل عن صحتها أديباً كبيراً فينا فلم يكذبها الأديب الكبير، بل قابله بالابتسام والدعابة في الجواب عما سأله. وقد لقيني ذلك المترجم يوماً في دار (الأساس) سنة 1947 وأبلغني هذا كله، فلما علم أنني فرغت من ترجمة البروتوكولات، وأني سأنشرها تباعاً في مجلة (الرسالة) حذرني كثيراً فلما رأى إصراري لقبني (الشهيد الحي)، وقرر نصيحتي بالحذر».
في الطبعة الثانية من الكتاب وضع التونسي أسفل هذه الحكاية هامشاً شارحاً ذكر فيه أن المترجم الذي رمز إلى اسمه بحرفي ألف وميم، هو أنيس منصور، وأن الأديب الكبير هو عباس محمود العقاد.
بصرف النظر عن التهويل والمبالغة في أن الذي يترجم تلك الوثيقة المزورة (بروتوكولات حكماء صهيون) محكوم عليه بالاغتيال أو الموت الطبيعي ظاهراً، فإن كنا من المؤمنين بهذه الخرافة في ذلك الوقت كما آمن بها العقاد وأنيس منصور ومحمد خليفة التونسي وسواهم، فسنجد أن لقب (الشهيد الحي)، معبر ودقيق في توصيف هذه الحالة. وهي حالة إنسان يقدم على عمل من أجل غاية يعتقد أنها غاية سامية، ويعرف سلفاً أن سنواته في الحياة معدودة عند إقدامه على هذه العمل، لأن حياته ستنتهي إما باغتيال وإما بوسيلة خفية، بحيث تظهر وفاته وفاة طبيعية. في حين أن هذا اللقب غير معبر وغير دقيق في توصيف حالة سيد قطب؛ لأن الخالدي حين منحه إياه لم يكن سيد قطب من الأحياء.

قدر سليمان فياض في الحكاية التي حصلت له مع سيد قطب، أن الكتاب الذي طلب سيد قطب من العقاد أن يكتب مقدمة له، ولم يستجب العقاد لطلبه هذا، هو إما أن يكون كتابه (التصوير الفني في القرآن) وإما أن يكون كتابه (مشاهد القيامة في القرآن).
وأقول إن الكتاب الذي عناه سيد قطب في تلك الحكاية - هذا إن صدقت - هو كتاب (التصوير الفني في القرآن) الذي صدر في عام 1945. أقول هذا للأسباب التالية:
- أنه أول كتاب يصدر له، وكان يعتز به كثيراً. وكتاب (مشاهد القيامة في القرآن) هو تكملة لهذا الكتاب. ولم يكن هو الكتاب الأصل في هذا الموضوع الذي عالجه.
- في هامش متأخر من صفحات كتابه (التصوير الفني في القرآن) قال: «كان للأستاذ العقاد فضل توجيهي إلى إفراد هذه السمة القرآنية بالإشارة، بعدما ورد منها في ثنايا الكتاب أمثلة متفرقة». وهذا يعني أن العقاد قد قرأ مسودة الكتاب قبل أن يدفعه قطب إلى المطبعة. وهو قد أعطاه مسودته لا ليستفيد من ملحوظاته وحسب، بل ليطلب منه بعد أن يتم قراءتها ويبدي ملحوظاته، أن يكتب مقدمة للكتاب.
في الرسالة التي وجهها سيد قطب إلى أحمد أمين (إلى أستاذنا الدكتور أحمد أمين)، المنشورة في مجلة (الثقافة) بتاريخ 10 سبتمبر (أيلول) 1951، بعد أن هيج أحمد أمين شجونه بإهداء مقاله (ضيعة الأدب) المنشور في تلك المجلة بتاريخ 20 أغسطس (آب) 1951 إليه، صرح بذلك إلى حد ما. إذ قال: «كان أول كتاب نشرته هو ذلك الكتاب الذي نال إعجاب صديقكم الراحل المغفور له عبد العزيز باشا فهمي، ذلك الإعجاب الذي آثرتم أن تبلغوني نبأه في رسالة منكم إليَّ وأنا مريض، لعل ذلك أن يكون له أثر طيب في صحتي كما قدرتم، ذلك هو كتاب (التصوير الفني في القرآن). وكان كتاباً موفقاً حقاً. أقولها الآن مطمئناً بعد أن أصبحت حقيقة أدبية منفصلة عن شخصي!

فماذا كان موقف أستاذي (يقصد العقاد)؟ وماذا كان موقف جيلكم كله؟ ماذا كان موقف جيل الشيوخ، لا من هذا الكتاب وحده ولكن من الكتب العشرة التي نشرتها حتى الآن؟».
يتساءل سليمان فياض عن سبب رفض العقاد كتابة مقدمة لكتاب سيد قطب، قائلاً: أيكون السبب هو غيرة الأستاذ من تلميذه الموهوب؟ أم يكون سبب الرفض والجفوة، حدة القلم وتمرد الروح في كتابات سيد قطب؟ التساؤل الأول لا يقول به سوى مغال في تثمين سيد قطب. فكيف يغار العقاد منه وهو مقلد له في شعره، وفي قصته (أشواق) وفي آرائه الأدبية والنقدية، ويسبّح بحمد ما يعتقد أنه عبقرية من أستاذه؟! وكيف يغار منه وكان مطأطئاً له طأطأة مهينة كانت مبعث سخرية منه واستفزاز له من أبناء جيله؟! وللحديث بقية.