&عبدالله بشارة

لم أرَ لبنان منذ أكثر من عشرين سنة، وأتابع ما يصدر عنه من كتب أسعى إلى الحصول على أنسبها، وأتابع نتاج الإبداع الفني والثقافي فيأخذني الأمل نحو الغد المضيء، وأقرأ عن صراع السياسيين وملاكمات «القبضايات» وصراخ ديوك الإعلام، فتنكفئ أمواج التفاؤل. لبنان بلد مثمر فكرياً ومتجل ثقافياً، ومزدهر جمالاً، ومسالم جغرافياً بلا أطماع في تراب الجوار ولا نهج للدخول في ملاعب السياسة للجيران.. ورغم كل ذلك فإن فيه علة لم تستطع أجيال الماضي علاجها وإقصاءها من واقع لبنان الداخلي، وهي العلة التي تهدد استقلاله وتدمر استقراره وتشوه عطاءه وتضعه في آخر المرغوب فيه في طابور الدول النامية. وينفرد لبنان بين دول العالم في حالته بتواجد قوات دولية تشكلها الأمم المتحدة وتقودها وتمولها من أجل الحفاظ على سلامته الداخلية، وقد عايشت إلحاح لبنان على استحضار كتائب العالم لكي تلعب دور الحارس الأمين لتحييد الصراع بين أبناء طوائفه، ووقفت على غياب الولاء الوطني في صراع الديوك من سياسيي لبنان وزعامات طوائفه، وأذهلني مدى الانقسام بين هذه الطوائف. كانت قنوات السياسيين اللبنانية تدخل في حوارات هادئة وسرية مع تجمعات لبنانية تحدت النظام واعتبرتها الأمم المتحدة عناصر متمردة، كان سعد حداد أبرزهم، وخليفته العقيد لحود، ورغم صراخنا في مجلس الأمن ضد هذه العناصر ،

فإن بعض الزعامات كانت تتعاطى معها وتأخذ وتعطي معها، إلى حد بدأت أشك في كل بيانات لبنان، ورغم صداقتي ومودتي للسفير اللبناني - آنذاك - الرجل الكبير غسان التويني، السياسي والإعلامي البارز، كان وطنياً لكنه مقهور من حروب الزعامات، كان الرئيس سركيس جنتلمان لكنه ضعيف، وكان وزير خارجيته فؤاد بطرس معتدلاً ومنسجماً مع ما تريده الأمم المتحدة، لكن زعامات الطبقة السنية أقرب إلى عرفات ومنظمة التحرير ولا تتردد في إبلاغ المنظمة بقرارات الحكومة، وكانت زعامات مسيحية متطرفة تتعاطى مع حكومة بيجن وتتفاهم معها من وراء ظهر رئيس الجمهورية الذي كان عارفاً بالوضع لكنه يردد بأن سلطته لا تتجاوز مكتبه.

وكان من غير المعقول أن يطالب لبنان بتواجد قوات دولية في جميع أجزاء جغرافيته من أجل تأمين الهدوء بين أبناء الشعب ولكي توقف حروب الجاهلية بينهم. كانت تجربتي في مجلس الأمن مع ملفين مزعجين، ملف لبنان وملف قبرص، مرض لبنان الدائم غياب الثقة والاطمئنان بين الطوائف، ومرض قبرص أغلبية يونانية تريد وحدة مصير مع اليونان وتعترض طائفة تركية تشكل ثلث السكان مع ذهنية حديدية في تصلبها ونشافتها، الأول يتسيده الخوف من عداوات بين زعمائه، وينشد العون من العالم، والثانية سلامتها في حيادها الذي لا تريده، ومن الطبيعي أن يفرز هذا الوضع اللبناني غير العادي نظاماً طائفياً منقسماً سياسياً ومتباعدا فكرياً ومتباينا ثقافياً، وتختلف طموحاته في جغرافيتها، البعض يجد في الغرب وفرنسا بالذات الراعي اللطيف والمتعاطف الوفي، والبعض ينشد العون من القاهرة زمان،

ومن سوريا بالأمس، ومن الخليج والسعودية في زمن اليوم، والبعض يستدعي إيران ويتحدث عن منافعها ويربط مصير لبنان بمستقبل النظام الإيراني، ومن هنا يأتي الأذى إلى لبنان، من هذه النوافذ التي سمح لبنان بأن يعبرها الآخرون ويتنافسوا ويتحاربوا على ترابه، كما يردد الساسة اللبنانيون، بينما الواقع يدين ساسة لبنان في استقوائهم بهؤلاء الغرباء، الذين يصدرون إلى لبنان مآسيهم، وكانت منظمة التحرير وقواتها غطاء مجموعات من كبار الطائفة السنية وكانت إسرائيل حليف الآخرين، وحلف الناتو حلم اللبنانيين. خلال إقامتي في نيويورك، تعرفت على الكثيرين من أبناء الجالية اللبنانية، منهم أطباء وتجار وأصحاب مطاعم ورجال فكر وتجارة، كان تراث الشاعر الأديب جبران خليل جبران متواجداً بقوة في ثقافة الجالية اللبنانية وكان الشاعر الآخر إيليا أبو ماضي، منافسه في الشهرة والمكانة.

وأسمع من أفراد الجالية الكثير عن «عمو إيليا» المتميز بفكره وشعره واعتزازه بجمال لبنان. كان الرئيس فؤاد شهاب حالة فريدة في استخراج لبنان من الاتكال على الدعم الخارجي، لكنه خرج متذمراً من سياسيي لبنان وواعياً لمخاطر المستقبل، وجاء بعده من ربط لبنان باتفاق القاهرة مع منظمة التحرير، في خطوة لا يتحمل لبنان ثقلها، وكانت الإفرازات مع تزايد الاعتماد على المال الخارجي السياسي الذي ظل يتكاثر مع تدفق المعونات لتجمعات طائفية من دول الإقليم ومن خارجه، وأصبح هذا الممر المالي العمود الفقري لاقتصاد لبنان، ومع سطوة حزب الله ورهن حياة لبنان السياسية بالدبلوماسية الإيرانية وأهدافها توقف المسار الخليجي المالي، وقد عالجت أموال إيران هذا النقص بالمزيد من الدعم حتى جاءت العقوبات المالية مع إيران مع مراقبة أميركية دقيقة، فجفت الأموال وضعفت الخزينة، وزادت القروض وشحت المصادر، ومن هذا السيناريو حلت المصيبة باعتماد ضرائب إضافية تحولت إلى ألغام تخرب الوضع، وخرج الشعب اللبناني يهتف بسقوط الكتائب السياسية التي استولت على إدارة لبنان في السنوات العشر الأخيرة.

ولأول مرة يقف لبنان على واقعه المر، في ضرورة البحث عن حل من الداخل، في مراجعة كاملة لإلغاء الاحتكار ووضع قواعد سليمة للاقتصاد، كما تفعل الدول الأخرى، لكن هذا الأمل تضاءل مع تهديدات حزب الله بإبقاء النظام السياسي الحالي، بكل هيكلياته وتحريم الانتخابات والتجديدات. سعى لبنان للحصول على دعم من لجنة سيدر (باريس) المتخصصة في تطبيق شروط الإقراض، الذي لعب دوراً في دعم لبنان مالياً برعاية فرنسية، ولم ينجح لبنان بعد أن حصل على مساعدات في ثلاث مناسبات سابقة، وكان الرأي بأن لبنان يعاني بقوة من سرطان الفساد، وغياب نظام ضريبي مؤثر، لا سيما من قطاع الخدمات جوياً وبحرياً وبرياً، ولا مجال لمستقبل لبنان من دون علاج جذري، ويأتي هذا الموقف منسجماً مع صيحات المتظاهرين المدوية التي لن تنتهي من دون تبدلات جوهرية في هيكلة الدولة اللبنانية، في سلوكياتها وفي توظيف إمكاناتها بدلاً من الأمل في إسعافات خارجية. رسالة شعب لبنان لا تنحصر في لبنان فقط إنما ستصل تموجاتها إلى دول بقيادات فاسدة وصيغ حكم لا تناسب هذا العصر. كان لبنان مشعلاً لفكر متجدد أجهضه السياسيون الفاسدون الذين هم الآن في نهاية المطاف.

&