&عبدالله المدني&

&قليلون هم من نقبوا وكتبوا عن عبداللطيف العيسى، هذا الارستقراطي النبيل الذي تقلب في دروب الحياة إلى أن اختار الخبر، زهرة مدائن شرق وطنه المطل على مياه الخليج العربي مقاما ومستقرا لمزاولة تجارته التي حولته مع مرور الأيام والسنين إلى اسم رنان وشخصية ذي صيت.

اليوم صار تحت أيدينا مرجع يمكن الاستناد إليه بثقة للكتابة عن مشواره والإبحار في تفاصيل حياته ومسيرته، ونعني بذلك الفصل الذي كتبه صديقنا الأستاذ محمد بن عبدالله السيف من الصفحة 41 الى الصفحة 68 ضمن كتابه «سيرتهم.. صفحات من تاريخ الإدارة والاقتصاد في السعودية» (دار جداول/‏ بيروت/‏ الطبعة الثالثة/ ‏نوفمبر 2015). وكان المصدر المعتمد الوحيد للحديث عن العيسى إلى ما قبل ظهور هذا الكتاب هو مقابلة يتيمة ونادرة جدا نجحت غرفة وتجارة المنطقة الشرقية في إجرائها مع العيسى في أغسطس 1986 ونشرتها في العدد 106 من مجلتها الشهرية، حيث كان الرجل كارها للأضواء الإعلامية ويتفاداها.&

ترجع عائلة العيسى التي ينتمي إليها صاحبنا إلى قبيلة عبيدة القحطانية من سكنة سراة عبيد في جنوب المملكة العربية السعودية. لكن رهطا منهم انتقل إلى نجد، وسكن مدينة الخرج قبل أنْ يتفرقوا ويستوطن قسم منهم الأحساء زمن الدولة العثمانية. من هذا القسم برز «علي عبدالله العيسى العائدي» الذي تزوج في شبابه من السيدة الجسورة «نورة آل زرعة» التي أنجبت له بدورها أربعة أبناء ذكور هم حسن وعبدالله (توفيا في الأربعينات) وراشد وعبداللطيف اللذين تولت أمهما تربيتهما وتعليمهما بإلحاقهما بالكتاتيب بعد وفاة زوجها.

&كانت تلك فترة عصيبة في تاريخ الأسرة، حيث عصفت الأزمات الاقتصادية والخسائر بنشاطها الذي كان محوره تزويد الجيش العثماني المرابط في الأحساء بالخيول وبالمواد الغذائية التي كان علي العيسى يستوردها من الهند، وذلك جراء نجاح الملك عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه في فتح الأحساء وطرد العثمانيين منها سنة 1913. لكن نورة آل زرعة تمكنت، بما حباها الله من ذكاء وحنكة التصرف وقوة الشخصية، من بيع أملاك زوجها واستخدام الأموال الناجمة في سداد ديونه كافة كي تتفرغ إلى الأهم، وهو تربية أبنائها، فزرعت فيهم بصماتها الإنسانية وصلابتها إزاء المحن.

لا يُعرف تاريخ ميلاد عبداللطيف علي عبدالله العيسى العائدي على وجه التحديد، وإنْ كان مكان ميلاده معروف وهو حي الرفعة بمدينة الهفوف. لكن بما أنه عاش نحو قرن من الزمان، شهد خلالها الكثير من التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحلية والاقليمية والعالمية، فإنه يمكن القول أن ميلاده كان في مطلع القرن العشرين، خصوصا إذا ما عوّلنا على معلومة مفادها أنه ذهب إلى القدس لإجراء عملية جراحية في «مستشفى هداسا» بعد أنْ وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها عام 1918.

لم يكمل العيسى تعليمه، مكتفيا بما ناله في الكتاتيب التقليدية من مبادئ القراءة والكتابة والدين والحساب، وما تعلمه على يد أخيه الأكبر عبدالله، ومقتديا بما فعله والده لجهة الانخراط في الاتجار مع الهند. إذ راح يستورد من الأخيرة ما كانت الأحساء تحتاجه آنذاك من أقمشة وتوابل ومواد غذائية. هذا قبل أنْ يقرر تنويع تجارته، وأيضا تنويع وجهتها بالاستيراد من الشام ومصر بدلا من الهند وحدها.

في أربعينات القرن العشرين، حينما بدأت مدينة الخبر تظهر على الخارطة كمركز تجاري واقتصادي نتيجة لازدهار الأعمال والخدمات المرتبطة باكتشاف وتصدير النفط. انتقل العيسى من الأحساء إلى الخبر واتخذها مكانا لسكنه مع أسرته ومقرا لنشاطه التجاري الذي كان وقتها قد تركز على استيراد وبيع الأثاث من خلال معرض افتتحه في الحي التجاري القديم بالخبر. وفي هذا السياق، كتب السيف على لسان أحد أبناء العيسى وهو عبدالرحمن بن عبداللطيف العيسى أن والده استشرف مستقبل البلاد مبكرا فاستثمر ما جمعه من مال في شراء الكثير من قطع الأراضي المعروضة للبيع في الخبر والأحساء دون أنْ يبني عليها، وذلك من منطلق فلسفة كان يتبناها مفادها «إذا أردت أنْ تقضي على أرض فابنِ عليها».

&أدار أعمال والده من الرياض&

البزوغ الفعلي للعيسى في عالم المال والأعمال كان في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ففي هذه الفترة راحت أعمال وأنشطة شركة أرامكو تتوسع، وكانت المنطقة الشرقية في حاجة ماسة إلى من يزودها بالسيارات، ولاسيما مع ظهور الراغبين في شرائها لاستعمالاتهم في التنقل المريح أو أولئك البسطاء الراغبين في تحويلها إلى سيارات أجرة من أجل كسب الرزق. استغل العيسى هذه الظروف مثلما استغلتها ثلة من الرواد الأوائل الكبار في عالم التجارة بالمنطقة الشرقية من أمثال العليان والقاضي والسحيمي والجميح والراشد والتميمي والمزروع والقصيبي.

وهكذا صار في بداية الأمر موزعا لسيارات جنرال موتورز عن طريق استيرادها من وكيل الشركة المعتمد في المنطقة الغربية، من عائلة زاهد، وبنى لهذا الغرض عمارة حديثة في شارع الأمير الملك خالد من ثلاثة أدوار، خصص الدور الأرضي منها كمعارض للسيارات، كما بنى منزلا لسكنه الخاص في الأحياء الواقعة خلف شارع الأمير بندر الشهير بشارع السويكت.&

ورويدا رويدا سعى الرجل إلى أنْ يكون الوكيل العام لسيارات جنرال موتورز في المنطقة الشرقية بمساعدة ابنه إبراهيم الذي كان قد قطع دراسته في بيروت وعاد ليؤازر والده في أعماله. وبعد بضع سنوات عاد أيضا ولده الآخر عبدالرحمن من رحلته الدراسية في الخارج (ولد عبدالرحمن في الهفوف سنة 1939 والتحق بكتاتيب الهفوف ثم درس حتى الصف الرابع الابتدائي بالمدرسة الأميرية التي كانت المدرسة الابتدائية الوحيدة في الأحساء آنذاك، ثم أرسله والده في سنة 1950 إلى مدارس المقاصد الإسلامية في بيروت. وفي عام 1960 حصل على الثانوية العامة من الجامعة الأمريكية ببيروت فغادر لبنان إلى الولايات المتحدة حيث التحق أولا بجامعة أوهايو ثم بجامعة كاليفورنيا التي نال منها بكالوريوس الاقتصاد وإدارة الأعمال سنة 1964) فانخرط في تجارة العائلة، لكن هذا الانخراط كان من بعد فترة اشتغل خلالها بوزارة المالية السعودية في وظيفة ضابط اتصال بين وزير المالية آنذاك الأمير مساعد بن عبدالرحمن رحمه الله ومعهد الإدارة العامة. وكان ذلك بطلب من والده الذي أراده أن يتدرب عمليا قبل الالتحاق بأعمال العائلة.&

اختار عبدالرحمن أنْ يدير أعمال والده من الرياض من خلال معرض للسيارات في حي الملز، وذلك بعد أن حصل في سنة 1968على توكيل سيارات شفروليه في المنطقة الوسطى بعيدا عن وكيلها في المنطقة الغربية، بالإضافة إلى حصوله في العام نفسه على التوكيل العام لشركة لوكاس لتجارة قطع الغيار والمحركات والآلات، ثم حصل العيسى على توكيل سيارات بيوك سنة 1977 فسيارات أولدزموبيل سنة 1982 فسيارات إيسوزو سنة 1983 فسيارات جي أم سي سنة 1990، علما بأن عبدالرحمن العيسى انفصل عن والده في سنة 1990، بسبب اختلافه مع أبيه وأخيه إبراهيم حول التوسع في الأنشطة من عدمه، الأمر الذي دعا والده للانتقال إلى الرياض ليباشر منها أعماله بنفسه، رغم تقدمه في السن. وهذه الخطوة لم تتسبب في إصابة عبداللطيف بالوهن، فقد كان محافظا على نظام صحي صارم في الغذاء، ومتقيدا بالنوم المبكر، ومبتعدا تماما عن التدخين وتناول المنبهات كالقهوة والشاي. كما عـُرف عنه اعتذاره عن حضور المناسبات الاجتماعية الثقيلة.

يقول السيف في كتابه نقلا عن الابن عبدالرحمن، إن إخوانه ساهموا في أنشطة والده التجارية، فمثلا عبدالمحسن عبداللطيف العيسى وزيادة عبداللطيف العيسى نجحا في تطوير الأعمال الخاصة بالسيارات والعمالة والصناعة والأراضي، بينما ذهب أخوهم نجيب عبداللطيف العيسى لإدارة أنشطة والده في المنطقة الغربية، فيما حلّ الابن الأصغر سعد عبداللطيف العيسى مكان أخيه إبراهيم في إدارة الأعمال في المنطقة الشرقية.

وهكذا عرفت المجتمعات السعودية العيسى كقطب من أقطاب السيارات في المملكة ولاسيما بين جموع سائقي سيارات الأجرة التي كانت حتى نهاية السبعينات من نوع واحد هو الشفروليه، فكان يــُقال مثلا «روح عند العيسى وفكْ شفر حمر» أي اذهب واحصل على سيارة شفروليه حمراء من عند وكيلها العيسى، خصوصا وأنه كان من أوائل بائعي السيارات بالتقسيط في المملكة (منذ أوائل الستينات) يوم كان الناس يتحلون بالوفاء والصدق، فكان أحدهم يأتي ويأخذ سيارة من العيسى دون أن يترك عنوانا يـُستدل منه عليه، ولا كفيلا يضمنه، ولا شيئا يمكن من خلاله أن تـُستعاد السيارة منه إذا ما فشل في سداد الأقساط في مواعيدها. كانت الثقة موجودة آنذاك وكان لدى المشترين بالأقساط إيمان قوي بأن الله لن يبارك لهم في ما أخذوه إذا تخلفوا عن سداد قيمته.

لكن ما لم يعرفه الكثير أن الرجل كان، إلى جانب استثماراته في مجال السيارات، أحد الأسماء اللامعة في أنشطة أخرى مثل تجارة الأراضي، وتأسيس المصارف (البنك السعودي الهولندي مثلا الذي انسحب منه لاحقا)، وتصنيع الأنابيب الفخارية الضخمة للمياه، وبناء البيوت والعمارات، وتصنيع مواد البناء (البلاط والطابوق والكنكري مثلا)، وبيع البرادات والغسالات والمكيفات من نوع (جنرال)، وخدمة تأجير السيارات، وغيرها من الأعمال باستثناء النشاط الزراعي.&

كما كان العيسى أحد رواد إطلاق الأسواق المركزية بدليل أنه افتتح أول سوق من هذا النوع في المنطقة العربية بأسرها من خلال التعاون مع شركة «7 إليفن» الأمريكية المتخصصة، ثم افتتح سوقا مشابهة تحت اسم «الأسواق» في المنطقة الشرقية عهد بإدارتها إلى زوج ابنته الدكتور فهد البنيان خريج جامعة هارفارد الأمريكية المرموقة.

وفي كتاب السيف أشياء أخرى كثيرة عن خصال الرجل وأفكاره ومبادئه منها عدم إيمانه بفكرة الشركات المساهمة وتمسكه بفكرة الشركات العائلية، وافتخاره بأنه لم يستثمر يوما ريالا واحدا خارج وطنه وذلك من منطلق أن السعودية هي «أسد المنطقة» كناية عن أنها أكثر البلدان أمانا لجهة الاستثمار وتنوع مجالاته، ناهيك عن قناعته بضرورة الاستثمار في تعليم أولاده وبناته. حيث حرص على ابتعاث كل الأولاد والبنات الذين أنجبهم من زوجته الأولى لطيفة بنت عبدالعزيز المحمود، (إبراهيم وعبدالرحمن وسعد وخالد وصلاح وسارة والجوهرة وهدى)، ومن زوجته الثانية منيرة بنت عبدالله المشرف، (عبدالمحسن ونجيب وزياد وحصة ونعيمة وسناء ولمياء وابتسام) إلى أفضل المدارس والجامعات في لبنان والولايات المتحدة.

وصفنا العيسى في بداية حديثنا بالرجل الارستقراطي، لكن استقراطيته لم تكن في مظاهر حياته التي اتصفت بالزهد في المأكل والملبس والمسكن وإنما تجلت في فكره المنفتح ورؤيته الثاقبة لما حوله ومبادئه التنويرية التي استقاها من أسفاره في الهند وإيران الشاهنشاهية وتركيا وبلاد الشام، ولاحقا من جولاته في أوروبا والولايات المتحدة اللتين أعجب باستخدام شعوبها لعقولهم، فصار منفتحا على جميع الآراء والسلوكيات والممارسات ومستعدا للحوار والمناقشة،&

فمثلا ــ طبقا لولده عبدالرحمن ــ اعتاد منذ الأربعينات أن يتناول طعامه على مائدة بدلا من الجلوس على الأرض، كما اعتاد على استخدام الشوكة والسكين في تناول وجباته. إلى ذلك عـُرف عن العيسى حبه للجمال والطبيعة الساحرة التي جعلته يتردد على لبنان ويفضل الاصطياف فيه منذ الخمسينات، بل اختاره أيضا ليكون مكانا لدراسة بناته (في صيدا بعيدا عن صخب بيروت) في وقت لم تكن فيه مدارس لتعليم البنات داخل المملكة. يقول السيف نقلا عن ابنة العيسى «الجوهرة» في الصفحة 56 من كتابه ما مفاده أن والدها كان يهوى التنزه في أحضان الطبيعة، فكان يأخذهم كل يوم، إذا ما كانوا في لبنان، إلى إحدى المناطق الخلابة مثل «نبع الصفا» و«الباروك». كما يورد السيف على لسان الجوهرة العيسى في الصفحة 52 قولها إنها لا تذكر أن والدها رفع صوته عليها أو على إحدى أخواتها، بل كان يشعرهم بالمحبة والتقدير، وكان يزورها في بيتها عصرا كل جمعة، كما أنها وزوجها حسن المشاري كانوا يبادلونه الزيارة، إما في منزله أو في مكتبه.

وإذا ما عدنا إلى رأيه في تعليم الفتاة، فإننا نجد تجلياته في ما سـُجل عنه أثناء مقابلته مع مجلة غرفة تجارة الشرقية سالفة الذكر، من «أن المرأة المتعلمة تكون أُمًّا ممتازة وزوجة ممتازة وهي أقدر على إسعاد نفسها ومن حولها من المرأة الجاهلة»، وقد انطلق في ذلك من قوله تعالى (وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)، مضيفا «أن العلم هو سلاح الإنسان، وهو رصيد المستقبل. صحيح أنني لم أتعلم لكنني عوضت ذلك في أولادي وقد نفعوا أنفسهم ونفعوني بعلمهم وأرجو أن ينفعوا وطنهم أيضا بهذا العلم».

سياسيا عـُرف عنه كراهيته للنظام الاشتراكي وإنقلابات العسكر وما جرّته على المنطقة العربية من مآسٍ وويلات عاشها بتفاصيلها، رغم نزعته العروبية والقومية. أما علاقته بولاة الأمر فقد كانت وطيدة بالملوك الخمسة الذين عاصرهم، ولاسيما بالملك فيصل والملك فهد رحمهما الله، وكذا بالأمراء مشعل وعبدالمحسن وماجد وسطام أبناء الملك عبدالعزيز الذين كان يلتقيهم صيفا في لبنان. حيث كانوا من ضمن المشاركين في حفل زواج ابنتيه الجوهرة وسارة على وزير الزراعة والمياه الأسبق الأستاذ حسن المشاري والدكتور فهد البنيان على التوالي، والذي أقيم في فندق بريستول ببيروت سنة 1965، فكان هذا الحفل من أوائل حفلات الزفاف التي بدأ السعوديون يقيمونها في الخارج في تلك الفترة. ومن جهة أخرى، كان العيسى يزور بين الفينة والأخرى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حينما كان أميرا للرياض، لذا لم يكن غريبا من جلالته أن يزور شخصيا منزل العيسى بالرياض لتقديم واجب العزاء إلى أولاده حينما توفي والدهم.

انتقل العيسى إلى جوار ربه ظهر يوم الاثنين الموافق 7 فبراير 2005، حيث توفي بهذا اليوم في منزله بحي العليا في الرياض، مخلفا وراءه سيرة حسنة وتاريخا ناصعا من العصامية والبساطة في التعامل مع الناس والحرص على عدم إبخاس حقوقهم والقيام بالأعمال الخيرية في سرية تامة. وبعد نحو شهر من وفاته، كتب نجيب الزامل في زاويته اليومية بجريدة الاقتصادية (3/‏4/‏2005) واصفا العيسى بـ«مؤسسة نجاح بذاته» ومضيفا أنه كان دائم التساؤل عن سر الطابع المتمدن لعائلة عبداللطيف العيسى إلى أنْ وجد أنّ سر العيسى يكمن في أنّه «منذ طلعته الأولى عرف أنّ العلم والترحل ومعرفة البلدان هو سر الرجل الذي استنار وأنار».

&