&خيرالله خيرالله

وضع لبناني وإقليمي معقّد لا يمكن التعاطي معه بلغة خشبية وبعض التغييرات التجميلية.

& لبنان إلى أين؟

بعد شهر على بدء الثورة الشعبية في لبنان، وهي ثورة حقيقية بكلّ معنى الكلمة، ثمّة حاجة إلى وجود قيادة سياسية قادرة على استيعاب معنى نزول كلّ هؤلاء الناس إلى الشارع في كلّ المناطق اللبنانية، بما في ذلك مناطق سيطرة “حزب الله” في الجنوب والبقاع وحتّى الضاحية الجنوبية. هذا ما يفتقده لبنان في هذه المرحلة بالذات.

هناك عجز لبناني عن استيعاب ما يجري على الأرض. لا شكّ أن “حزب الله”، بقي استثناء عندما اتّخذ مواقف تنمّ عن فهمه لخطورة ما يجري على الأرض. لجأ إلى خنق الثورة في جنوب لبنان وقد نجح في ذلك جزئيا فقط. كذلك، ضبط الوضع في الضاحية الجنوبية لبيروت. فوق ذلك كلّه، عمل على تهدئة الشيعة المعتمدين عليه عبر طمأنتهم إلى انّه لن يتوقف عن دفع رواتبهم بغض النظر عمّا يحلّ برواتب موظّفي الدولة اللبنانية.

هذا كله لا يعني أنّ الحزب نجح في فصل الشيعة عن اللبنانيين الآخرين بمقدار ما يعني أنّه يفهم جيدا أن الثورة اللبنانية هي ثورة على “عهد حزب الله” الذي بات يتحكّم بكل مفاصل الدولة اللبنانية. استطاع ذلك بعدما أغلق مجلس النواب سنتين ونصف سنة. لم يعد فتح المجلس إلّا بعد انتخاب مرشّحه رئيسا للجمهورية في ظلّ تقلّص الدور السياسي للمسيحيين والسنّة والدروز على مستوى الخارطة اللبنانية كلّها.

تابع الحزب مسيرة الانقضاض على مؤسسات الدولة اللبنانية عبر القانون الانتخابي الذي عمل عليه والذي أجريت على أساسه انتخابات السادس من آيّار/ مايو 2018. أصبحت لـ”حزب الله” أكثرية في مجلس النوّاب اللبناني، وهو ما عجز عن تحقيقه في انتخابات العام 2009 التي تلقّى فيها صفعة غير متوقّعة.

انبثقت عن المجلس النيابي الجديد حكومة الرئيس سعد الحريري الذي سار، عن حسن نيّة، في 2016 في تسوية رئاسية تبيّن مع الوقت أنّها ليست تسوية في ضوء غياب القدرة لدى “التيّار الوطني الحر” الذي يترأسه جبران باسيل، صهر رئيس الجمهورية، على لعب دور بيضة القبّان داخل مجلس النواب أو داخل الحكومة.

تبيّن بوضوح ليس بعده وضوح أنّ “مرشد” الجمهورية اللبنانية حسن نصرالله هو من يتحكّم، نيابة عن إيران، باللعبة السياسية في لبنان، خصوصا بعد سيطرة “حزب الله” غير المباشرة على السياسة الخارجية للدولة.

في ظلّ وضع في غاية التعقيد في المنطقة كلّها، يكتشف لبنان أنّه صار رهينة لدى “حزب الله” الذي ليس في نهاية المطاف سوى أداة إيرانية، أكان ذلك في لبنان أم خارجه. لم يستطع لبنان تحييد نفسه، خصوصا عندما اشتدّ الصراع بين أميركا وإيران. لم يأخذ لبنان علما سوى في وقت متأخّر بأن الإدارة الأميركية الحالية مصرّة على جعل إيران ترضخ لمطالبها معتمدة الضغوط الاقتصادية قبل ايّ شيء آخر. لا تقتصر هذه الضغوط على إيران وحدها بل تشمل أيضا كل أدواتها في المنطقة، وفي مقدّمها “حزب الله”.

الشعب يبحث عن قيادات فاعلة ومقنعة

المخيف في الأمر أن الطبقة السياسية اللبنانية، وفي مقدّمها “التيّار الوطني” الحر، لم تستوعب معنى الحرب الاقتصادية التي تشنّها إدارة دونالد ترامب على إيران. على العكس من ذلك، استخفّت هذه الطبقة السياسية، مع استثناءات قليلة، بهذه الحرب التي أرادت إيران تحويلها إلى مواجهة عسكرية تستطيع الاستفادة منها. بدأت الآن تتوضّح الأسباب التي جعلت الإدارة الأميركية تمتنع عن الردّ على كلّ الاستفزازات الإيرانية، بما في ذلك إسقاط طائرة استطلاع كلفتها 150 مليون دولار فوق مضيق هرمز في حزيران/ يونيو الماضي.

مؤسف أن تغيب عن لبنان القيادة السياسية القادرة على فهم المعادلات الإقليمية من جهة والنأي بالنفس فعلا عن الصراعات الدائرة في المنطقة من جهة أخرى. هذه بكل بساطة مسؤولية كبيرة يتحمل جانبا لا بأس به منها المسيحيون في لبنان. هؤلاء اختاروا في الماضي زجّ أنفسهم في صراعات كان مفروضا تفاديها عبر الإتيان برئيس للجمهورية يستطيع الربط بين الأحداث والتطورات الإقليمية وحماية الحدّ الأدنى من الاستقرار في لبنان…& بدل الاعتقاد أن الإتيان بشخص مثل محمد الصفدي، أو ما شابهه، رئيسا لمجلس الوزراء يمكن أن يحلّ أي مشكلة من أيّ نوع.

عندما يقبل المسيحيون أن يختار “حزب الله” رئيس جمهوريتهم تمهيدا لأن يتحول صاحب الأكثرية في مجلس النوّاب، يتوجّب عليهم تحمّل نتائج مثل هذا التصرّف الذي يعكس جهلا ليس بعده جهل بإيران وسياستها وخطورة هذه السياسة على مستقبل لبنان.

يمرّ لبنان بكلّ بساطة بمرحلة في غاية الدقّة والتعقيد. مرحلة أكثر خطورة من مرحلة العام 1970 عندما اختارت أكثرية المسيحيين انتخاب سليمان فرنجية الجدّ رئيسا للجمهورية. لم تأبه هذه الأكثرية بأن للرجل حسنات كثيرة من بينها حسّه الوطني. لكنّ هذا الحس شيء واستيعاب المعادلات الإقليمية ومعرفة كيف التعاطي معها في سنة مفصلية مثل السنة 1970 تظلّ شيئا آخر. ففي تلك السنة، كان العالم العربي يغلي. مات جمال عبدالناصر وخرج الفدائيون الفلسطينيون من الأردن وقام حافظ الأسد بانقلابه في سوريا تحت تسمية “الثورة التصحيحية” تمهيدا لدور أكبر لسوريا يتجاوز حدودها ويشمل لبنان.

هناك في 2019 وضع لبناني وإقليمي معقّد ليست الثورة الشعبية سوى تعبير من تعابير كثيرة عنه. لا يمكن التعاطي مع هذا الوضع باعتماد لغة خشبية والتظاهر بأن في الإمكان الخروج من الأزمة عبر بعض التغييرات ذات الطابع التجميلي مثل الإتيان بوزير اختصاصي في مجال عمله من هنا وآخر من هناك. ثمّة حاجة إلى الذهاب إلى جذور الأزمة بدءا بحوار صريح مع “حزب الله” عن طريق سؤال في غاية البساطة. هذا السؤال هو الآتي: هل يستطيع الابتعاد قليلا عن الحكومة وترك المعنيين الذين يمتلكون القدرة على التعاطي مع العرب والمجتمع الدولي، على رأسه أميركا، يحاولون معرفة شيء واحد. هل من أمل بإنقاذ الاقتصاد اللبناني والحؤول دون انهياره؟ هذا الاقتصاد شيعي وسنّي ومسيحي ودرزي. الأموال في المصارف شيعية وسنّية ومسيحية ودرزية.

إذا لم يكن ذلك ممكنا وإذا أصرّت إيران على اعتبار لبنان ورقة من أوراقها في اللعبة الدائرة في المنطقة وفي صراعها مع أميركا، يمكن القول من الآن إن لبنان سيدفع ثمنا كبيرا. يعود دفع هذا الثمن، في جانب منه، إلى غياب القدرة لدى مسيحيي لبنان الذين في السلطة على أخذ العلم بأن الوقت ليس وقت العناد والاستعانة بسلاح “حزب الله”. إنّه وقت العقلانية والواقعية والتواضع والتحلي بالمعرفة والتعلّم من دروس الماضي بدل التمسّك ببطولات وهمية لم تجرّ سوى الكوارث على الوطن الصغير وعلى كلّ طوائفه وأبناء هذه الطوائف، خصوصا على المسيحيين قبل غيرهم…