&خيرالله خيرالله

هل يصلح موظف للعب دور زعيم سياسي وإخراج الجزائر من الأزمة العميقة التي تمر فيها… أم أن كلّ المطلوب الاستعانة بعبدالمجيد تبون لإعادة تأهيل نظام غير قابل لأيّ إعادة تأهيل أو لأي إعادة إنتاج.

&أذن صاغية لصوت قديم جديد

تبيّن بعد الانتخابات الرئاسية الجزائرية أنّ المؤسسة العسكرية تحاول مرّة أخرى إعادة إنتاج النظام نفسه الذي أسّسه هواري بومدين في العام 1965، مع فارق أساسي. يتمثّل هذا الفارق في إيجاد شخص يحمل لقب رئيس الجمهورية يُوضعُ في الواجهة، في حين أن الحاكم الفعلي يظلّ المؤسسة العسكرية. هل يمكن للنظام إعادة الإنتاج نفسه عبر عبدالمجيد تبون الذي انتخب رئيسا في الثاني عشر من الشهر الجاري في عملية يبدو أنّ العسكر بقيادة رئيس الأركان أحمد قايد صالح حضّروا لها تحضيرا جيّدا.

عندما تأسّس النظام الجزائري الحالي إثر الانقلاب الذي نفّذه هواري بومدين على أحمد بن بله، الرئيس المدني الساذج، الذي كان يقرأ في المهرجانات الشعبية الخطاب الذي يكتبه له أحد معاونيه من دون أن يراجعه ويطّلع مسبقا على مضمونه، لم يعد من شخص قويّ سوى بومدين نفسه. بمجرّد وفاة بومدين أواخر العام 1978، قررت المؤسسة العسكرية وراثة النظام. لجأت في البداية إلى الشاذلي بن جديد، الأقدم رتبة بين عُقداء الجيش. عندما أُزيح الشاذلي في 1992، بدأ البحث عن خليفة طيّع له في مرحلة كانت الحرب الداخلية مستعرة، وكانت المؤسسة العسكرية تعتبر نفسها في معركة حياة أو موت.

انتهت تلك المرحلة الصعبة في العام 1998 بقرار الاستعانة بعبدالعزيز بوتفليقة، وهو قرار اتخذ على أعلى المستويات العسكرية. بقي بوتفليقة رئيسا طوال عشرين عاما، من 1999 إلى 2019. لم تكن العلاقة بين المؤسسة العسكرية وبوتفليقة سهلة، خصوصا أن الأخير كان يمتلك شرعية تاريخية تعود إلى مشاركته في حرب الاستقلال من جهة، وقربه من هواري بومدين من جهة أخرى. كان ملفتا أنّه على الرغم من أن بوتفليقة بقي ستّ سنوات مقعدا، إلّا أن المجموعة المحيطة به استطاعت ممارسة السلطة من خلاله، وذلك خلافا لما كانت ترغب فيه المؤسسة العسكرية التي تلقت صفعات عدة على يد بوتفليقة نفسه أو المجموعة المحيطة به، وعلى رأسها شقيق الرئيس سعيد بوتفليقة… الذي يحاكم حاليا!

كان بومدين يختزل في شخصه المؤسسة العسكرية بأجهزتها الأمنية وفروعها السياسية، في مقدّمها الحزب الحاكم، جبهة التحرير الوطني. جاء غيابه ليجعل الأجهزة الأمنية وفروعها السياسية صاحبة القرار على الصعيد الوطني، علما أن اللجوء لاحقا إلى بوتفليقة، الذي كانت لديه حسابات يرغب في تصفيتها مع العسكر، عكس في حينه غياب الخيارات الأخرى لدى أشخاص نافذين عدة في تلك المرحلة مثل الجنرال العربي بلخير أو الجنرال محمّد مدين (توفيق).

رحل بوتفليقة عن الرئاسة في 2019 لأسباب عدة. بين هذه الأسباب الحراك الشعبي الواسع الذي جعل من انتخابه لولاية خامسة مهزلة ليس بعدها مهزلة. من بين الأسباب أيضا استغلال المؤسسة العسكرية للحراك الشعبي كي تأخذ المبادرة وتنهي خيار الولاية الرئاسية الخامسة لرجل مقعد عاجز عن مخاطبة شعبه أو التوجه حتى إلى وزرائه.

بعد سلسلة من المناورات السياسية، وجدت المؤسسة العسكرية الإخراج اللازم الذي أوصل عبدالمجيد تبون إلى الرئاسة في تحدّ واضح للحراك الشعبي المستمرّ منذ شباط- فبراير الماضي، وهو تحرّك يطالب بتغيير جذري في النظام. لا شكّ أنّه لا مآخذ على الرئيس الجزائري الجديد من ناحية الفساد والانغماس في صفقات مالية أو تغطية لرجال أعمال وسياسيين ارتبطوا بالمجموعة المحيطة ببوتفليقة. فالرجل لم يصمد في موقع رئيس الوزراء في عهد بوتفليقة أكثر من تسعين يوما. كان ذلك في العام 2017. وقد استبدل على وجه السرعة ولأسباب لا تزال غامضة، صيف تلك السنة، بأحمد أويحيى الذي صدر في حقّه حكم بالسجن قبل أيام قليلة.

من الواضح أنّ الرئيس الجزائري الجديد يسعى إلى طمأنة الحراك الشعبي الذي قاطع الانتخابات الرئاسية لكنّه لم يستطع منعها. قدّم فور إعلان نتيجة الانتخابات وعودا كثيرة يمكن أن تلقى صدى طيّبا لدى الناس العاديين. تحدّث عن ضرورة الدخول في حوار مع الحراك الشعبي للبحث في مطالبه. لكنّ المؤسف أنّه لا وجود لشخصيات تمثّل الحراك يمكن الدخول في حوار معها. كلّ ما هناك هو مطالب عامة تنادي بالتغيير الجذري وترفض النظام القائم منذ 1965.

تحدّث تبّون عن دستور جديد وعن قانون انتخابي جديد وحتّى عن “جزائر جديدة”، لكن ليس ما يشير حتّى الآن إلى تجاوب شعبي كبير معه، لا في العاصمة ولا في المدن الكبرى الأخرى أو في الريف، ولا في مناطق تسمّى “قبايلية” فيها أكثرية أمازيغية كان يمكن أن تستهويها أصول تبون.

يصعب على الجزائريين، أكانوا عربا أم أمازيغ، تصديق خطاب ذي طابع إصلاحي يصدر عن رجل أمضى خمسين عاما في خدمة نظام العام 1965 الذي في أساسه المؤسسة العسكرية. إنّه رجل جيء به إلى الرئاسة بهدف واحد هو إعادة إنتاج هذا النظام. فما لاحظه الجزائريون أن اللغة ذات الطابع الإصلاحي غابت عن الظهور الأول لتبون عندما تطرّق إلى مسائل مرتبطة بالعلاقات الخارجية مع أوروبا، خصوصا فرنسا، أو مع دولة قريبة مثل المملكة المغربية. لدى إشارته إلى فرنسا ودعوة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى حوار بين السلطة والشعب الجزائري، عاد إلى اللغة الخشبية والمزايدات الفارغة التي يتسم بها الخطاب الرسمي الجزائري على الرغم من أن طموح معظم الجزائريين هو الهرب إلى فرنسا. الأسوأ من ذلك كلّه، أن تبون كشف نفسه لدى التطرق إلى موضوع الحدود مع المغرب. وضع شروطا مضحكة لإعادة فتح الحدود المغلقة منذ العام 1994، متجاهلا الدعوات المغربية الصادرة من أعلى المستويات لبناء علاقات متطورة بين البلدين الجارين وإعادة فتح الحدود بينهما. بقي أسير عقدة المغرب وكأن هناك رقيبا جالسا على كتفه يتابع كلّ كلمة تصدر عنه. نسي أنّه رئيس الجمهورية الجزائرية وأنّه لم يعد مجرّد موظف في نظام أمني أسّسه هواري بومدين. نسي أن الناس في الجزائر تريد التخلّص من هذا النظام وهي موجودة في الشارع منذ ما يزيد على أربعين أسبوعا من أجل هذا الغرض.

سقط الرئيس الجزائري في الامتحان الأوّل الذي واجهه. تبيّن أنّه أسير الماضي وعقده لا أكثر، وأسير الوظائف الإدارية التي تولاها منذ تخرجه من مدرسة الإدارة العامة مطلع سبعينات القرن الماضي. هل يصلح موظف للعب دور زعيم سياسي وإخراج الجزائر من الأزمة العميقة التي تمر فيها… أم أن كلّ المطلوب الاستعانة بعبدالمجيد تبون لإعادة تأهيل نظام غير قابل لأيّ إعادة تأهيل أو لأي إعادة إنتاج؟

&

&