عبدالله بشارة

شهد شهر ديسمبر 2019 نهاية عضوية الكويت في الأمم المتحدة، بعد أن قضى الوفد عامين حاملاً مسؤولية وضعتها الأسرة العالمية على أكتافه في ثقة بأن يرتفع إلى أعلى مدى ممكن في ايجابيته للقضايا التي يجدها في ملفاته خلال عمله، وبذلك انتهت الزيارة الثانية للكويت لعالم مجلس الأمن، وكنت أول من نصب خيمة الكويت في هذا العالم، وذلك عام 1978، ولمدة عامين قضيناها في عالم المجلس. كان الفرق كبيراً بين الزيارتين، كانت الأولى وسط عالم الحرب الباردة، كانت أكثر من باردة، شهدت حرباً سلاحها مفردات ورصاصها كلمات، ومحتواها صياغات، وأهدافها طموحات وطنية لا علاقة لها بما يقوله ميثاق الأمم المتحدة عن المثاليات، وشهدت أيضا انفعالات وتهويشات بأسلوب الممثلين في شارع برودواي المشهور، كان أبلغ المدفعيات في تلك الحرب ما كان في مخازن الدول الدائمة العضوية الخمسة، المتسلحين بالفيتو، كان الفيتو أبلغ المدافع وأقساها في إدخال الجروح لقلوب وضعت أملها في نزاهة المجلس. شاهدت الاتحاد السوفيتي يصوب الفيتو نحو شعب أفغانستان، وشاهدته يصيب الشعب الأميركي بغصة عندما أسقط الفيتو الروسي قراراً أميركياً حول عقوبات على إيران بسبب احتجاز الرهائن، وعاصرت أميركا تدين شعب فلسطين بلا قلب مرتين عام 1976، إلى حد كفر هذ الشعب بالأسرة العالمية كلها.. لا يخرج قرار دون رضى الكبار، وهذا واقع لا علاج له، لم يكن ستالين يقبل منظمة عالمية حول الأمن والسلم دون تحصين موقعه بالفيتو، وتنطبق هذه القاعدة على الآخرين، واشنطن وبكين، فالوضع العالمي الحالي أخرج بريطانيا وفرنسا من كوكبة المتميزين.

يشهد عالم الآن مؤشرات نحو عالم متعدد الأقطاب، فالهند دولة في الفضاء الحالم، وأوروبا المتحدة تسير نحو العملقة، والصين في انطلاق نحو فضاء آخر، وهناك البرازيل واليابان، فالسباق الآن لمن يملك العقول التي تروض التكنولوجيا لاحتياجات الحياة، ومن هذا التطور التكنولوجي تحول مجلس الأمن إلى فناء يضم كل ما يواجه الانسان، نزع السلاح والبيئة وتغيرات المناخ والجفاف ومشكلة الغذاء والارهاب وقضايا اللاجئين المشردين، وكل ما يهم البشر في هذا الكوكب. كانت مساحة الحرية في العهد الأول أوسع تتيح النقد اللاذع ضد الفيتو، كانت وقاية الكويت في مثالية دبلوماسيتها وولائها لقيم الأمم المتحدة، كل ذلك تبدل، فالغزو غير الكثير بما فيه حساباتنا في الابحار في المياه الغليظة..

بهذا الوعي كانت دبلوماسية الكويت في الفصل الثاني من عضويتها في مجلس الأمن، مختلفة في ايقاع مفرداتها وفي نغمات بياناتها.. كنا بالأمس نختلف مع الذين أصبحوا شركاء الوقاية في التحالف الاستراتيجي بين الكويت والولايات المتحدة الذي أكد الغزو بضروراته من واقع لا جدال فيه بحاجة الكويت إلى غطاء أمني رادع. وانسجم وفد الكويت خلال هذين العامين مع حقائق الغزو، دون تخل عن النغمة المثالية في دبلوماسيتها، فدافع بقوة عن فلسطين، وتبنى بقناعة قضايا أفريقيا، وكان صوته عالياً في إبراز معاناة قطاع كبير من البشر في أفريقيا وآسيا، وتحدث باستنارة عن التقدم الاجتماعي مدافعاً عن قضايا المرأة والمحرومين والمهجرين، وانسجم مع آلام الشعب السوري فتحدث الوفد عن معاناة شعب سوريا من نظامه، واعتماد هذا النظام على بنادق الآخرين لحمايته من شعبه..

كان السفير منصور العتيبي، وبمعيته فرقة كويتية شبابية واعية بما يريح الكويت، وبما يوفر لها الاحترام، وبما يحقق تقدير الوفود الأخرى في المجلس وخارجه، فلم يبالغ في الاعتراض، ولم يفر من معركة، وكان دائماً بالصف الأول في القتال لمصلحة الانسانية المثالية التي صارت عنوان الكويت، وكان الوفد متابعاً بجدية، ومشاركاً بفاعلية ومتحدثاً بعقلانية.. ولم يغب عن ذهن الوفد أن الكويت مدينة في تحريرها للشرعية العالمية ممثلة في قرارات مجلس الأمن، وكان الائتلاف العالمي يضم ثلاث دول دائمة العضوية، بدعم من الصين وروسيا، وبمشاركة عربية وفق قرار قمة القاهرة في أغسطس 1990، وبمتابعة كويتية تدعو لتحرير الكويت، وتفاعل وفد الكويت مع هذه الحقيقة، فلم يدخل في سجالات عقيمة مع أحد.. كما كان الوفد موجوداً في تبني القرارات وطرحها وشرحها، وحين يتعذر نجاح قراراته لا ينفعل ولا يتجاسر على الذوق العام.. كنت أتابع مداولات آخر مشروع قرار تبناه الوفد يخص تمرير المساعدات الانسانية إلى المحاصرين السوريين، وهو مشروع قرار قدمته الكويت وألمانيا وبلجيكا، فانهزم القرار بفيتو من روسيا وآخر من الصين، الأولى مناصرة للنظام السوري والثانية خوفاً من أن يصبح التدخل سابقة قد تمسها. هناك أيضاً ملاحظة جديرة بإبرازها وتمس حساسية الوفد في سلوكه العام داخل الأمم المتحدة، فكان يرصد جيداً المعاني السامية التي ربطت الكويت بحياة الأمم المتحدة وما تفرضه علينا للدفاع عنها والمساهمة في انجاح مأموريتها والوجود المؤثر في فضائها.

كان نصيبي من رئاسة مجلس الأمن دورة واحدة، كان مقعد الرئاسة أيام الحرب الباردة ساخنا جداً، لصعوبة امكانية التوافق بين حلفي الناتو ووارسو، وتوابعهما، فالطرفان يسعيان للتأثير على الرئيس إذا ما جاء من عدم الانحياز، وشعرت بذلك خلال رئاستي للمجلس، كانت فيتنام تغزو كمبوديا، والصين تغزو فيتنام، صراع الصين وموسكو على طاولة المجلس، وحلف الناتو يريد ادانتهما، والصين تسعى لإهانة الاتحاد السوفيتي، والأخير يهزأ بالصين وغزوها لفيتنام، ولم ننجح في تمرير أي قرار، موسكو تحمي فيتنام، والصين تدافع عن كمبوديا.. في فترة السفير منصور العتيبي جاءت الرئاسة للكويت مرتين، حضرالأولى سمو رئيس الوزراء صباح الخالد عندما كان وزيراً للخارجية، والثانية تولاها السفير بمفرده، مع إشادة جماعية بالأداء المحترم والهادئ، وتنتهي عضوية الكويت بالثناء للمشاركة الايجابية الجامعة في كل القضايا وبمشاركة دبلوماسيات كويتيات تحدثن باسم الكويت ومن مقعدها في مجلس الأمن، وشكلن لوحة مستنيرة لموقع الكويت في التطور الانساني. تأتي تونس الآن بعد الكويت، جاءت بعدنا عام 1979، ويتكرر المشهد الآن، تونس تملك عنصرين مهمين لمجلس الأمن، الاعتدال المحفور في تراثها، والخبرة المتراكمة منذ استقلالها، والأمل يكبر معها..