رفعت بدر

تشرفت في العام 2019 بالقيام بثلاث زيارات إلى دولة الإمارات العربية الشقيقة، ولكل من الزيارات قصة:
الأولى في بداية فبراير الماضي، حيث شاركت بمؤتمر القمة حول «الأخوة الإنسانية» التي تكللت بتوقيع البابا فرنسيس وشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب على وثيقة «الأخوة الإنسانية».
أما الزيارة الثانية، فكانت في أكتوبر الماضي، بدعوة من جريدة الاتحاد في منتداها السنوي حول التسامح. أما الزيارة الثالثة فكانت في نوفمبر الماضي مشاركاً ومتحدثاً في مؤتمر قمة التسامح العالمية الثانية في دبي. هنالك جهد من أجل التسامح في الإمارات، ولكنه لم يبدأ فقط منذ العام الماضي، فقبل أعوام تم إقرار قانون تجريم وتحريم الإساءة إلى الأديان، وتم استحداث وزارة تحمل اسم التسامح، والكلام مرتبط بالأعمال والمبادرات.
وللحديث عن التسامح قبل سنة التسامح في الإمارات، دعوني أسرد لكم الحادثة التالية:

في عام 2014 كنت كاهن الرعية الجديد في «كنيسة قلب يسوع» في ناعور، واستضفت بالتعاون مع «كاريتاس الأردن» (فرع من منظمة إغاثية كاثوليكية) 51 شخصاً من المهجرين العراقيين المسيحيين من الموصل: بعد هجوم «داعش». فباتت عندي 11 عائلة في قاعة الرعية الصغيرة لمدة 6 أشهر. طبعاً كان يزورنا مسؤولون ودبلوماسيون يأخذون صوراً تذكارية مع المهجرين ويرحلون. في مساء ماطر، جاءني الدكتور حمدان مسلم المزروعي رئيس مجلس إدارة هيئة الهلال الأحمر الإماراتي، شربنا الشاي معاً وتحدث مع المهجرين، أعجب بهم. قال لي سأعود بعد أيام.

وبعد يومين عاد وقال: (جئتكم قبل يومين، ولم أشعر أبداً أنكم لاجئون شعرت بكم أخوة وأصدقاء، لذلك تحدثت مع سمو الشيخ حمدان بن زايد آل نهيان، ممثل الحاكم في منطقة الظفرة رئيس هيئة الهلال الأحمر، وأخبرني أنه سيقدم مبلغاً من المال لكي تسكن كل عائلة منكم ببيت مستقل، وليس في قاعة للجميع). لا أستطيع وصف الفرحة الغامرة التي سادت القاعة في تلك اللحظات، الهلال الأحمر الإماراتي يساعد في رسم البسمة على وجوه المهجرين المسيحيين.
وأن يكون عاماً مخصصاً للتسامح أمر جميل، لكننا، أولاً: كما قال البابا بيندكتوس السادس عشر في الإرشاد الرسولي: «التسامح الديني موجود في العديد من الدول، لكنه لا يؤدي إلى نتيجة ملموسة لأنه يبقى محدودًا في نطاق تطبيقه. من الأهميّة بمكان الانتقال من التسامح الديني إلى الحرية الدينية». ولقد احتفلنا في الأردن في نوفمبر2019 بمرور 15 عامًا على «رسالة عمّان»، التي أُطلقت في ليلة القدر من عام 2004، وفي عام 2019 احتفت دولة الإمارات العربية المتحدة بعام التسامح.

ثانيًا: علينا أن نعمل معًا، ما أجمل كلمة معًا بالعربية المعيّة. علينا أن نتعاون دولاً ومؤسسات وأديان وثقافات وكل ذلك من أجل تنمية الإنسان تنمية متكاملة لكل إنسان ولكل الإنسانية.

ثالثاً: الإرهاب لا يزال يعمل، وهذا يتطلب مجهوداً مضاعفاً من أجل هدفين: الأول معالجة العقول التي أصيبت بداء التعصب والتطرف العنيف والسموم الفكرية. والثاني هو وقاية العقول التي لم تصب بأذى. الإمارات تعمل، والأردن بلدي يعمل ومصر تعمل والسعودية تعمل عبر مركز الملك عبدالله بن عبد العزيز لحوار الثقافات والأديان، والفاتيكان تعمل، وعلى قوة الخير أن تنتصر على قوى الشر والظلام. قبل أيام قتل كاهن أرمني كاثوليكي مع والده، في سوريا، لم يقتلا لخلافات عائلية أو مع الجيران، بل لأنهما مسيحيان. نعم ما زال هنالك من يتألم بسبب عقيدته وإيمانه. فكيف نعمل معاً على تخفيف هذه الجراح؟

رابعاً: التربية والإعلام. في كلمته الأخيرة قبل مقتله، جاء خطاب للبغدادي، مؤسس «داعش»، فشكر الإعلام الذي ساند مجموعاته الإرهابية. نعم الإعلام قد يكون قاتلاً – وقد يكون لامباليا - وقد يكون بانياً، لكن دعونا نشجع مؤسساتنا الفكرية والإعلامية أن تكون دائماً في صف الحياة.

لنعد إلى وثيقة «الأخوة الإنسانية»، وإلى رسالة بطاركة الشرق الكاثوليك، نجد أن الحاجة الملحة هي إلى: تربية إنسانية جديدة تقوم على الاحترام الكامل للإنسان.
وخامسًا وأخيرًا: وثيقة الأخوّة الإنسانية تمثل شرعة أخلاقية وأيضاً تمثل مشاريع عمل مشتركة وعلينا أن نركز على الفن والموسيقى والرياضة. إنها مساحات شعبية واسعة تستطيع أن تخدم القيم التي تدعو إليها وثيقة الأخوّة الإنسانية. وعلينا أن نشجّع التعاون بين الدول من أجل خلق ليس فقط مبادرات وتجمعات حول حوار الأديان وتحالف الحضارات، بل علينا أن ننشئ ثقافة جديدة، هي ثقافة التقبُّل، ثقافة اللقاء، وثقافة التعاون من أجل الإنسان.
أخيراً، كانت لدى الكاردينال الراحل «جان لويس توران» أحلام، لم يستطع تحقيقها كلها، لكنه والحق يقال إنه رجل الحوار بامتياز. دعونا نكمل الطريق، ونعاهد الإنسانية أن نكمل معاً مشاريع الحضارة والتقبل. إن مشروع «الإخوة الإنسانية» – كوثيقة مكتوبة قد حصل- لكن تطبيقه على أرض الواقع، سيكون طويل الأمد. الإمارات وضعت السكة على الدرب. الأردن كذلك بلدي العزيز يحتضن هذا العام مصباح إسيزي للسلام وجائزة تمبلتون للحوار، لكننا بحاجة إلى تصدير هذه الرسائل إلى كل أقطار الأرض.
واختم بما قاله «توران» في أول لقاء مع الأزهر، وقد كنت ضمن الوفد الكاثوليكي:«إن الاستمرار في درب الحوار هو هدية نقدمها للإنسانية. أما توقفه أو تجميده فهو هدية في يدي الإرهاب والإرهابيين. دعونا نسير جميعاً على درب الهدية الأولى». دولة الإمارات العربية، شكراً على سنة التسامح الحافلة، ومعكم نسير إلى ما بعدها.

مدير المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام -الأردن