علي قاسم

التطبيع الحقيقي ليس نزالا هنا ومعرضا هناك، بل التطبيع هو الفشل الاقتصادي والتنموي والعلمي والثقافي.

فوز مستحق

لو كان الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة حيّا بيننا، لسارع إلى توجيه كلمة عتاب تصل إلى حد الاستنكار، في وجه الحالمين الرومانسيين، الذين هاجموا لاعبة التنس التونسية أنس جابر، في الشارع والمقاهي وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، وقال بملء صوته: برافو أنس…

“لا للتطبيع، لا للتفريط”. وكنّا أكبر المطبعين، وأكثر من فرّط بحقوق الفلسطينيين، عندما فرّطنا بحقوق شعبنا، ولم نسلّح أنفسنا بالعلم والمعرفة وبأسباب الحضارة، ليحسب الآخرون لنا ألف حساب.

“وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل”.. فماذا أعددنا لهم؟ لم نعدّ لهم سوى الجهل والتخلّف، نواجههم به، ولم نكن سوى دول فاشلة، فاسدة، ومفلسة.

برافو أنس… لأنك أعدت إلى نفوسنا بعض الثقة، بعد أن أدمنا الهزائم والانتكاسات، واكتفينا بالشعارات العنترية، التي دأبنا على إطلاقها، منذ اليوم الذي صدر فيه وعد بلفور عام 1917، وحتى هذه اللحظة، التي ملأنا فيها الدنيا صراخا، منددين بجريمة ارتكبتها أنس بفوزها على العدو.

وبينما اكتفت وزارة الخارجية في بيان لها بالتعبير عن قلقها بخصوص مبادرة الإدارة الأميركية لتسوية القضية الفلسطينية، التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، أصدرت بيانا آخر اعتبرت فيه أن مشاركة أنس جابر في بطولة التنس المقامة في هلسنكي، هو تجاوز لتعهدات تونس والتزاماتها التاريخية إزاء القضية الفلسطينية، ومخالف للموقف الرسمي للدولة.

واعتبر البيان أن هذه المشاركة “مخالفة للموقف الرسمي للدولة التونسية الداعم والمساند لحقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية على أساس قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية”.

وكانت القرعة قد وضعت تونس في مجموعة واحدة مع إسرائيل، لتخسر اللاعبة شيراز البشري مباراتها الأولى مع الإسرائيلية لينا غلوشكو، بشوطين لصفر، فيما تمكّنت أُنس جابر من معادلة النتيجة بفوزها على الإسرائيلية فلادا كاتيش، بشوطين لصفر، لتواجه التونسيتان منافستيهما في اختصاص الزوجي في وقت لاحق وتحققان الانتصار على اللاعبتين الإسرائيليتين.

وذكرت تقارير إخبارية أن وزارة الشباب والرياضة التونسية رفضت مشاركة المنتخب، وطلبت من جمعية التنس الانسحاب من الكأس الدولية، لكن الجامعة رفضت خوفا من العقوبات.

ولم يكذب سياسيون وزعماء أحزاب خبرا، وسارعوا للدخول على خط الجدل والنقاش، ونشر رئيس الهيئة التسييرية لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية سمير بن عمر، منشورا على صفحته الرسمية بموقع فيسبوك قال فيه “عار، عار على تونس أن تلعب مع الكيان الصهيوني في كأس العالم لتنس السيدات”.

أما تدخّل حمة الهمامي، أمين عام حزب العمال، والناطق باسم الجبهة الشعبية، الذي طالب فيه بحلّ جامعة التنس، وأن تتوجه أنس بالاعتذار للتونسيين، فهناك من رد عليه بمثله وأكثر، ناصحا زعيم اليسار التونسي، الذي فشل في الانتخابات التشريعية التونسية الأخيرة، بحلّ حزبه والبحث عن وظيفة أخرى يمارسها.

لماذا لم ير هؤلاء في المنافسة التي جرت، فرصة للتأثير النفسي على العدو وإثبات التفوّق؟ ألم تجر العادة في الماضي، على أن تسبق المعارك مع الأعداء، مبارزة تقام بين أقوى الفرسان، لإبراز التفوّق وإنزال الرعب في صفوف العدو.

لم يقتصر العمل الدبلوماسي يوما على ترديد الشعارات، دعونا نستأنس قليلا بالتاريخ.

كان خلفاء المسلمين، ومن بينهم خلفاء العصرين الأموي والعباسي، وأيضا الخلفاء في الحقبة العثمانية، يستقبلون الوفود الدبلوماسية ورُسل أعدائهم، وكانوا يحتفون بهم ويحرصون على أمنهم.

التطبيع الحقيقي ليس نزالا هنا ومعرضا هناك، بل التطبيع هو الفشل الاقتصادي والتنموي والعلمي والثقافي. كان حريا بالسياسيين أن يوفروا جهدهم وصوتهم لتوجيه اللوم إلى المؤسسات التربوية والاجتماعية المسؤولة عن تراجع مستوى التعليم في معظم الدول العربية.

وكان الأجدر بنا جميعا، أن نعدّ لأعدائنا، وهم كثر، كل أسباب القوة والبأس التي ترهبهم.

لو كان بورقيبة بيننا اليوم، لكتب على صفحته في الفيسبوك أو تويتر أو انستغرام “برافو، برافو أنس جابر… بفوزك المستحق والشجاع هذا كسرت حاجزا نفسيا جعلنا، على مدى عقود طويلة، ننظر إلى أنفسنا نظرة دونية، ومنحتينا فرصة للفرح وبناء الثقة بالنفس”.