عبدالله بشارة

أمر يلفت النظر أن يستدعي نائب وزير الخارجية، الدبلوماسي الحصيف خالد الجارالله سفير إيران في الكويت، ناقلاً للسفير انزعاج الكويت من تصريحات يرددها المسؤولون في إيران بأن اقلاع الطائرة التي قصفت سيارة الجنرال المتوفى قاسم سليماني قائد فيلق القدس كان من الكويت. وأمر غير عادي أن يتم ذلك اللقاء يوم الجمعة خلال عطلة الأسبوع مع مواعيد صلاة الجمعة التي يلتزمها المصلون، في تعبير عن الضيق ليس من التهمة فقط وإنما من ضياع الحكمة، ومن التخبط الذي انتاب السلطات الإيرانية من تأثيرات تلك العملية.

حافظت الكويت على علاقاتها مع إيران على خط من الاعتدال الذي يتيح للبلدين الاتصال وتبادل وجهات النظر والتشاور حول قضايا ثنائية وقضايا خليجية واقليمية، منذ استقلال الكويت، مستذكرين الموقف القوي من شاه إيران ضد ادعاءات عبدالكريم قاسم بالمطالبة بالكويت في استحضاره لادعاءات سخيفة تصورها منجدة تنقذه من تخبط قيادته للعراق، كان الشاه يقف ضد أي تحولات في حدود العراق شمالاً أو جنوباً، فخريطة الحدود التي ورثناها في المثلث الغليظ، حيث تلتقي حوله حدود إيران بحدود العراق في شط العرب بمحاذاة خطوط الكويت، هذا المثلث الضيق لا يتيح لأي طرف من الأطراف الثلاثة أن يمارس تمنيات التغيير في خريطة المنطقة بسبب حساسيته الجيواستراتيجية وأبعادها في توازن القوى اقليمياً، وترابطه مع قواعد الأمن والاستقرار العالمي، وقد كانت العلاقات مع الشاه واقعية وعملية وعلى خط مستقيم يعني correct، ليس فيها انحدارات ولا مبالغات في السلوك.

وجاءت الثورة الايرانية، وغيرت قواعد الاستقرار في المنطقة عبر أحلام النظام في تصدير مشروعه الاسلامي الراديكالي، ومع كل ما شهدته إيران من تحولات، أصر الجانب الكويتي على التمسك بالذخيرة التاريخية التي توافرت للبلدين من خلال حكم الشاه، فلم تنقطع الاتصالات وكان سمو الأمير الشيخ صباح الأحمد أول من ذهب لمقابلة الزعيم الروحي والسياسي آية الله الخميني، مع قيام مجلس التعاون، وواصلت الكويت أحياناً باسم مجلس التعاون وأحياناً بمبادرة منها للاتصال مع طهران لجس النبض بحثاً عن تحول يدفع بالعلاقات الخليجية - الإيرانية إلى الأمام. ورغم تعرض العلاقات بين إيران والكويت إلى مرحلة حرجة عندما تمكنت إيران من احتلال الفاو العراقية، وهي البقعة الرخوة في الأطراف الشرقية للعراق، غير أن الوعي التاريخي لأهمية وقاية العلاقات بين البلدين وإدراك الطرفين بضرورات الحفاظ عليها، رغم الابتهاج الإيراني بالوصول إلى الفاو، أثر كثيراً في تجاوز الأزمة العابرة. وعندما ارتكب صدام حسين حماقة القرن بغزوه لدولة الكويت وتدشين مرحلة الاستعراض الوهمي للقوة وبشاير النصر، غير أنه أدرك الدور المؤثر لإيران في مصير الغزو ومستقبل النظام العراقي.

وبعيداً عن كل التجميلات الاستعراضية أعاد صدام حسين اعتراف العراق باتفاقية الجزائر التي وقعها مع الشاه في مدينة الجزائر عام 1975، بعد أن ألغاها خلال الحرب العراقية - الإيرانية التي استمرت من 1980 - 1988 ويرسل طارق عزيز في سبتمبر 1990 للبحث عن صيغة جديدة يحقق فيها ترضية من إيران وحيادها خلال عمليات تحرير الكويت وفق القرارات التي اتخذها مجلس الأمن الدولي. وفي شهر نوفمبر 1990 مع تبني مجلس الأمن الانذار الموجه إلى العراق بسحب قواته من الكويت قبل منتصف يناير 1991، يذهب نائب الرئيس عزت الدوري إلى طهران متودداً، وقد نشر الكاتب العراقي سعد البزاز في كتابه «الجنرالات آخر من يعلم» في ص 146، أن الرئيس رفسنجاني في جلسة مغلقة بحضور المترجم فقط، طالب بمعرفة أهداف العراق غير المعلنة، لأن المعلنة معروفة، وعاد عزت الدوري إلى بغداد حاملاً وعداً من إيران بتأييد العراق إذا تعرض للعدوان.

ومع اقتراب المعارك الجوية تتجه طائرات الخطوط الجوية العراقية إلى إيران بحثاً عن مأوى، وتلحق بها الطائرات العسكرية، بكل أنواعها، وتهبط في إيران لتصادرها حكومة إيران تعويضاً عن خسائرها خلال الحرب الطويلة، ويصرخ صدام لقد خدعنا الإيرانيون. نحن في الكويت لا ننسى هذا الموقف الذي أملته حقائق المصالح فوق أنه ملتزم بأهلية النظام الاسترايتجي في منطقة المثلث الرابط لحدود الدول الثلاث الذي سعى صدام حسين لاختراقه، فلم ينجح لأن إيران التزمته والمجتمع الدولي أصر عليه، ومجلس الأمن أكد شرعيته التاريخية بترسيم الحدود بين الكويت والعراق، وأمن وقائيته والدفاع عنه.

ونعود إلى مساعينا لتحقيق واقع ينظم الترابط بين البلدين، الكويت وإيران، في تأمين ميزان القوى في شمال الخليج، بما يزيد من اطمئنان العالم بأن الممرات البحرية، الحاملة للنفط سليمة ومفتوحة وتديرها دبلوماسية عاقلة وناضجة. بعد صدور أحكام خلية العبدلي بتهم تشير الأصابع إلى دور المخابرات الإيرانية، عبرت الكويت عن غضبها واستنكارها بإعادة السفير الكويتي مجدي الظفيري إلى الكويت في رسالة واضحة تعبر عن استهجان حكومة الكويت من تلك الرعاية لعملية لا تجني منها إيران سوى الخسارة، لكنها لم تبعد السفير الإيراني تقديراً من الكويت لأهمية الحفاظ على خطوط الاتصال والابتعاد عن المزيد من تعكير مياه البحر في شمال الخليج بعد أن لوثتها أساليب صدام حسين.

تمر الدبلوماسية الإيرانية الآن – بعد مقتل الجنرال سليماني - في فصل يتطلب من حكومة إيران أن تتعامل مع المجتمع العالمي بعقل مختلف عن الانغلاق الذي تسيد أجواء طهران، فغير معقول أن تواصل إيران نزعة المغامرة إقليمياً والمواجهة عالمياً بأسلوب تحدِّ لا تملك إيران مقوماته، فالعالم لن يقبل العبث بأمن الخليج ولن يتسامح مع الإضرار بالممرات البحرية، مع بقاء المحاصرة والعقوبات تحطم منابع الحياة في إيران، بينما حكام إيران يلتهون بتصدير المواعظ والتهديدات. يمر العالم الآن في مرحلة تشهد انحسار الأيديولوجيات السياسية والدينية والتخلي عن التخشب الفكري مع مساعي الانفتاح الاقتصادي والدفع بحق التعبير والالتزام بالقانون وسيادته في المجتمع والتجاوب مع التوجهات العامة للأسرة العالمية، ومع كل ذلك تبقى الكويت وفية لأبعاد الجغرافيا وعلى علم بمحتوى همسات الجغرافيا.. مثمنة تلك الهمسات وملتزمة بها.