زهير الحارثي

ليس من قبيل المبالغة القول إن السعودية تعيش تحولات استثنائية غير مسبوقة. أغلب المتفائلين ومن مضت بهم التخيلات لم يدُر بخلدهم أو يخطر على بالهم أن يدركوا هذه الإصلاحات والتحولات في حياتهم، التي كانت شيئاً من الأحلام والأوهام والخيالات.

غير أن القرار السياسي لا يلبث أن يتقدم المطالب الاجتماعية بمراحل، ويدفع باتجاه التطوير، ضمن منظومة استشعارية للمجتمع تجس استجابته وتفاعله. خلال الأعوام الفائتة، صدرت أوامر لافتة وقرارات تاريخية غير مسبوقة. هذه القرارات التي تعلَن بين الفينة والأخرى تشعرنا بأن المملكة تتغير فعلاً، وأننا باتجاه صناعة دولة لا تختلف عن الأخريات. ويحسب للقيادة إدراكها لأهمية وجود أدوات مؤسسية تمكنها من اتخاذ القرار المناسب، وهي في ذلك تبلور رؤية شاملة للسياسات الداخلية والخارجية، على قاعدة تحليل الأحداث والظواهر، واستقراء التطورات المستقبلية. التوجه الجديد للدولة واضح، والإرادة السياسية عازمة على المضي به، ولا ثمة تراجع؛ وهكذا تُدار الدول وتُحكم، حيث التخطيط السليم لحياة طبيعية.

هذا التحول يدفعنا للاحتفاء بالتنوع المذهبي والثقافي والاجتماعي والرصيد التاريخي الذي نملكه، ما يستدعي استثماره وتوظيفه لمصلحة البلاد. لا يمكن لنا، كدولة ومجتمع، أن نعيش بمعزل عن العالم، ولا نستطيع أن ننافس بأدوات وأساليب قديمة وبيروقراطية عقيمة، ناهيك من أساليب ممانعة نتاج الفكر الصحوي. هذا يتطلب مسلكاً ضرورياً لا بد من عبوره لتدشن الدخول لمرحلة تنموية عناصرها الإنسان والأمن والرفاهية، وقد كان. في تقديري، ما يقوم به ولي العهد هو أبلغ رسالة للمتطرفين الذين أجرموا في حق بلادي عقوداً، ودمروها ثقافياً وفكرياً، وأدخلوها في حالة من الانغلاق والكراهية لكل ألوان الحياة والترفيه والفنون.

نتذكر حديثه المطول لـ«الشرق الأوسط»، عندما أوجز ولي العهد السعودي في عبارة منظومة الإنجاز والجهد المضني الذي تعيشه المملكة، رغم صعوبة القرارات وضخامة التحدي؛ يقول الأمير: «إن أولويتنا هي مصالحنا الوطنية، وتحقيق تطلعات شعبنا من خلال

أهداف (رؤية المملكة 2030) الاقتصادية والاجتماعية، والتنمية والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، وهذا يتطلب بيئة مستقرة ومحفزة داخل المملكة وفي المنطقة». ونفى وجود ممانعة لمشروعه الكبير، مفتخراً بأبناء بلده يقول: «المواطن السعودي أصبح يقود التغيير، بينما تخوف كثيرون من أن الرؤية ستواجه مقاومة بسبب حجم التغيير الذي تحتويه».
المثير للدهشة هو التجاوب الاجتماعي غير المسبوق، والانسيابية والقابلية الاجتماعية مع البرامج والفعاليات والحفلات والمناسبات واستقبال السياح، ما يعكس تحولاً اجتماعياً لافتاً، أو لنقل العودة إلى ما كان عليه المجتمع السعودي في السبعينات من فطرة نقية وتصالح مجتمعي، حيث السلم الاجتماعي والتسامح والتعايش والأيام الجميلة.

تمضي السعودية في حياتها اليومية بانسيابية وهدوء وعزيمة وإصرار، رغم ما يحيط بها من أحداث ومخاطر، وتسير بثبات إلى الأمام بدليل استشراف المستقبل الذي تصنعه القيادة، ولذا تجد القرار السياسي يهدف لعصرنة الدولة، بالمحافظة على المكتسبات ودمج

الكفاءات والقدرات لخلق صيغة مواءمة تقود البلاد لبر الأمان. ضرورة التحول كانت قراراً استراتيجياً ومفصلياً لأنه يعني السيرورة كدولة، وتثبيت سلطة الحكم، وتعبيد الطريق للأجيال القادمة.
ما يجري في السعودية هو التحديث من خلال فرض منطق الدولة التي ترى شيئاً قد لا نراه. تحول له مسار، ويمر بين أشواك ومصاعب وممانعة، وهو أمر متصور، ولكن هنا تكمن قدرة الزعماء الخالدين. الغالبية مع توجه الدولة، ولا ننفي وجود فئة صغيرة تنزع لنمط نستالوجي ماضوي تقليدي، وهو أمر متصور، ولكنه لن يستمر لأن التيار العقلاني سيحتويهم. منطق الدولة يحسم المسألة شئنا أم أبينا لأن الأمر متعلق بمصلحة شعوب ومستقبل أجيال. هذه الشريحة من الفكر والسلوك لها أساليب قد تكون استفزازية واندفاعية وخارج نطاق المنطق، ما يجعلها تتنافى مع النسق المجتمعي، وتصطدم مع فطرته، ومع ذلك ليس لها في النهاية إلا أن تندمج مع توجه الغالبية.

التطوير والإصلاح حاجة، وليسا ترفاً، بل ضرورة ملحة تقتضيها متطلبات العصر من أجل المرور إلى موقع أفضل ضمن السياق الإنساني والاجتماعي، وهو ما نعيشه هذه الأيام بدليل ملامح التغيير الواضحة التي تتشكل ملامحها في أرجاء السعودية كافة اليوم.
أحلامنا التي تلاشت مع السراب لعقود ماضية بسبب عوامل كثيرة، ليس أقلها أهمية هيمنة الخطاب الصحوي، لم تعد كذلك اليوم، بل تحولت بفعل فاعل إلى حقيقة، بدليل أن أصحاب الهواجس والعراقيل أسقط في أيديهم وهم يرون ما كان يصورونه لنا مستحيلاً وغير ممكن يتجسد أمامهم واقعاً ماثلاً للعيان. هذا وفوق كل ذي علم عليم.