الحبيب الأسود

رهان الأحزاب في تونس هو اختراق الدولة والتحكم بمفاصلها لأسباب عقائدية أو لمصالح عابرة للحدود، ما جعل الأمن والقضاء والإعلام مثار شك وجدال.

طريق غير سالك للفخفاخ

ماذا يعني أن تتمسك حركة النهضة بوزارة تكنولوجيا الاتصالات والاقتصاد الرقمي إلى حد الانسحاب من المسار الحكومي؟ وماذا يعني أن يتمسك حزب التيار الديمقراطي بوزارتي الحوكمة ومقاومة الفساد وأملاك الدولة بعد أن كان مصرّا على نيل حقيبتي الداخلية والعدل قبل أن يقرر رئيس الحكومة المكلف، إلياس الفخفاخ، تحييدهما وإسنادهما لشخصيتين مستقلتين؟ وماذا يعني أن يتواصل الصراع على حقائب وزارية بعينها في ظل الحكومات المتلاحقة منذ عام 2011 تاريخ الإطاحة بالنظام السابق؟

الواضح أن الديمقراطية التونسية التي دخلت منذ أسابيع عامها التاسع مازالت عاجزة عن توضيح جنسها وماهيتها، وهي تكاد تتحول إلى دكتاتورية أسوأ من تلك التي يُتهم بها نظام دولة الاستقلال، فقبل الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي كان المجتمع تحت غطاء الدولة، أما اليوم فإن الدولة تبدو خاضعة لنزوات الأحزاب في ظل غياب المؤسسات القادرة على تحصين المجتمع، وما يزيد الوضع سوءا أن تلك الأحزاب فاقدة الثقة في بعضها البعض، وكل منها يسعى إلى وضع أجهزة السلطة تحت سيطرته، لخدمة المشروع الذي يهدف إليه، لا المشروع الذي يخدم الدولة والمجتمع.

الجميع يشك في الجميع، والجميع حذر من الجميع، والجميع يحاول أن يمسك بيده ما يدين الجميع، بينما يزيد الوضع الاقتصادي والاجتماعي ترديا، ويتم تزوير الوقائع والأرقام وتزييف المعطيات لإقناع الداخل والخارج بأن الأوضاع على ما يرام، في حين تواجه البلاد خطر انهيار حقيقي وخاصة في مستوى الخدمات، وخطر الانزلاق إلى نفق سياسي من الصعب الخروج منه، وهو ما أشار إليه الرئيس قيس سعيد، وما حذر منه أغلب المراقبين والمحللين السياسيين، وما يتحدث عنه قادة الأحزاب ولكن دون أي سعي منهم لتلافيه، والسبب أن كلا منهم يدفع بتهمة الوقوف وراء ذلك إلى الأطراف الأخرى.

تبدو تونس مفتوحة على كل الاحتمالات، والسبب الرئيسي ما وصف سابقا بتحولها إلى دولة هواة، وهو ما يعني بصورة أخرى خضوعها لرغبات الأفراد في مستوى القيادات الحزبية التي تصر دائما على التأكيد على أمر واحد، وهو أن الديمقراطية تعني سلطة الأحزاب، لكنها تتجاهل أن الديمقراطية هي غلاف خارجي الهدف منه التداول السلمي على الحكم مع ضمان الحريات العامة والخاصة، بينما تحافظ الدولة على تماسكها وسيادتها وصلابة قرارها وموقفها من خلال المؤسسات البعيدة عن الصراع الحزبي والسياسي، والتي تتدخل في الوقت المناسب لوقف الانزلاقات خوفا من التدهور نحو الهاوية.

في تونس ومنذ تسع سنوات، كان رهان الأحزاب هو اختراق الدولة بكل تفاصيلها والتحكم في مفاصلها لأسباب قد تكون عقائدية أو جهوية أو فئوية أو شخصية أو لمصالح عابرة للحدود أو مقترنة بلوبيات بعينها، ما جعل الأمن والقضاء والحوكمة والإعلام وغيره مثار شك وجدال، وبات الصراع على الحقائب الوزارية يعني تحصينها من طرف لفائدة طرف آخر، حيث يتهم كل حزب الحزب المقابل بأنه يحاول تجيير هذه الحقيبة أو تلك لمصلحته، وفي ذلك أكبر ضربة للمسار الديمقراطي.

إن شك وتشكيك الأحزاب في بعضها، وخوف كل منها من الآخر، وتلك الاتهامات المتبادلة التي لا تتمحور حول البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وإنما حول التأثير في عمق توجهات الدولة التي يفترض أن تكون سقفا يغطي الجميع، يعني أن المسار خاطئ، والواقع متردّ، والديمقراطية الناشئة مريضة بضعف أو ربما بفقدان المناعة، وأن تقديم مصلحة الدولة لم يعد يثير اهتمام أي كان، خاصة أولئك الذين يرفعون الشعارات البراقة، دون أن يتراجعوا خطوة إلى الوراء لمعرفة طبيعة الموقع الذي يتمركزون فيه من واقع الدولة والمجتمع ووضعية الشعب المنهك.