جميل مطر

خلال أيام معدودة خرجت علينا أصوات من الشرق والغرب، تجمع على أن العالم يعيش مرحلة لا يجد فيها ما يجمع عليه. تبالغ هذه الأصوات، هناك إجماع متفرق على قضايا ومسائل شتى. هناك مثلاً أصوات في الشرق كما في الغرب، وفي الجنوب كما في الشمال، تجمع على أن العالم يعيش أجواء حرب باردة. حروب عديدة وليست حرباً واحدة. حروب أشد من حرب القرن العشرين وبين أطراف أكثر عدداً. من هذه الحروب الحرب الباردة بين الصين والولايات المتحدة. بدأ الإجماع يتكون متدرجاً حول تحليلات تنبأت بأن العلاقات بين الولايات المتحدة والصين مقبلة على توترات، مآلاتها أن تصب في حرب باردة. لم تكن الشواهد كثيرة، ولكن ما أعلن منها عن وجوده حفّز على هذا الاستنتاج، وإن تأخر المحللون.

لم يشهد العام الماضي إنجازاً مهماً على صعيد العلاقات بين الدول الأوروبية، وهذا في حد ذاته محل إجماع آخر بين كبار المحللين وأكثرهم دراية بتفاصيل العلاقات. على العكس استمرت بارزة ومتزايدة علامات الضعف الأوروبي تجاه أمريكا وروسيا والصين. خذ الصين مثلاً. نذكر للرئيس إيمانويل ماكرون أنه حذّر من عواقب استمرار الحال في تطور العلاقات الأوروبية الصينية على ما هو عليه، فقال «لقد انتهت مرحلة السذاجة الأوروبية». صحيح أن هذا التصريح لم يحدث ما أحدثه تصريحه الذي شبه فيه الحلف الأطلسي بالعقل الميت، إلا أنه كان تعبيراً صادقاً وصريحاً عن نوع الضعف الذي تدهورت إليه الجماعة الأوروبية في علاقتها بالصين. لم يضع ما أراد قوله في كلمات دبلوماسية كتلك التي صدرت عن السيدة أنجيلا ميركل، عندما قالت «يجب علينا كأوروبيين أن نرى الصين منافساً وشريكاً في الوقت نفسه».

لم يبتعد ماكرون أو ميركل عن الحقيقة في تصريحاتهما عن حال أوروبا، وأظن أنه يجب علينا الاعتراف بأن عام 2019 لم يكن أفضل أعوام الاتحاد الأوروبي. ففي هذا العام انشغلت المفوضية بترتيبات إقامة قيادة جديدة للمفوضية. هذا الانشغال إضافة إلى مفاوضات بريكسيت وترتيبات الاستعداد لفوز المحافظين البريطانيين وصدمة خروج بريطانيا، التي أصابت معنويات عواصم عديدة في شمال ووسط أوروبا ومناورات الرئيس الأمريكي وحروبه التجارية الصغيرة، كلها وغيرها من التطورات الصعبة والمعقدة استهلكت معظم طاقة المفوضية الأوروبية. يكتمل الاعتراف بتفاقم الضعف الأوروبي وأسباب ذلك عندما نضع في اعتبارنا واقع الارتباك السائد في الحياة الحزبية الألمانية، والتغير النسبي في حجم وفاعلية نفوذ أنجيلا في الداخل الألماني. دخل كذلك في اعتبارنا أنه في العام نفسه لم تكن أحوال فرنسا الداخلية أفضل كثيراً من أحوال ألمانيا أو إيطاليا. كل هذا وغيره لا يقلل من أهمية العنصر الروسي، وأقصد استمرار الضغط الروسي على كل المواقع الرخوة في الوحدة الأوروبية.
إمبراطوريتان على طريق التكوين، إمبراطورية روسية تتكون للمرة الثالثة أو الرابعة خارج الحدود المعروفة لروسيا، وإمبراطورية صينية تتكون لأول مرة خارج الحدود الثقافية والتاريخية للصين التي نعرفها. لاحظنا كيف أن أساليب التوسع الإمبراطوري في الحالتين مختلفة، كيف اختلفت الحالتان عن حالات تكوين الإمبراطوريات الغربية في كثير من الأمور. أعرف مثلاً ولا أظن أنني مخطئ، أنه لا بكين ولا موسكو تحوزان معلومات ووثائق دقيقة ومدققة أو تخضع لتدقيق وافٍ، وهي معلومات ووثائق عن أساليب حياة قبائل وأمم وشعوب في منطقة الشرق الأوسط، كتلك التي توافرت لدى وزارة المستعمرات البريطانية، وما يشبهها في هولندا وبلجيكا وفرنسا.

التقيت مؤخراً خبراء من روسيا والصين يجيدون التحدث بلهجة عربية أو أخرى، ولم أجد بينهم من يوازي في سعة الاطلاع وعمق المعايشة أسماء لشخصيات أسهمت في توسيع رقعة إمبراطوريات الغرب في الشرق الأوسط. أجازف فأتصور شرقاً أوسط وقد انحسرت عنه «حضارته» الغربية، وزحفت نحوه متآلفة في عصر ومتنافسة في عصر آخر تقاليد سلافية و«حضارة» آسيوية. ألم تأتِ هذه العبارة الأخيرة على لسان متحدث صيني كبير المقام في مؤتمر الأمن الذي انعقدت دورته السنوية قبل أيام في مدينة ميونيخ الألمانية؟
اليوم ألسنا شهوداً على إمبراطورية غربية أخرى تنحسر؟ أمريكا تنسحب من الشرق الأوسط ومن وسط آسيا، تترك الشرق الأوسط لروسيا ووسط آسيا تتركه للصين. الهند، في رأيي، غير مؤهلة الآن لدور إمبراطوري، وبحسب إجماع في الغرب وفي آسيا لن تتأهل خلال العقود المنظورة.

بصفتي إنساناً يعيش في وطن عربي، أسأل سؤالاً من أسئلة كثيرة جديرة فعلاً بأن نتداول فيها وفي إجاباتها، وهو: هل نحن جاهزون لمواجهة مشاق وكوارث التخلي عن تقاليد وأفكار الغرب، وفوقها مشاق ومصاعب اعتناق مسيرة آسيوية أو سلافية بتقاليد وأفكار مختلفة، أم أن لدينا، نحن العرب، بديلاً ناجعاً، بديلاً صنعناه وصقلناه، ثم خبأناه لأيام كهذه.