يوسف بن طراد السعدون
استعمر البريطانيون، شبه القارة الهندية، بسلاح «فرق تسد»، وبعدد قليل من الأفراد. ففي عام 1931 كان يوجد 4 آلاف بريطاني يتحكمون في ما يقارب 300 مليون هندي، بمساندة 60 ألف مجند منهم. واستنزفوا، على مدى قرنين من الزمن، ثروات الهند التي كانت تبلغ حصتها بالاقتصاد العالمي نسبة 23 في المائة في بدايات القرن الثامن عشر، فأصبحت فقط 3 في المائة عام 1947، كما أشار شاشي ثارور بكتابه «الإمبراطورية غير المحترمة» (Shashi Tharoor: Inglorious Empire)، وانتهى الاستعمار بتقسيم الهند إلى ثلاث دول خاضت حروباً عديدة، لا تزال جذواها ملتهبة. وتاج (أو «كورونا» باللغة اللاتينية) الفتنة، التي نشرها المستعمر البريطاني بكيان الشعب الهندي، كان أهم أضلاعه التالي:
1 - نشر الفساد والظلم والرذيلة، من خلال فرض ضرائب باهظة والتساهل في الرشوة والسرقة، ما أجبر الهنود على إتباع النهج نفسه. فأصبح كل فرد وكل شيء بالهند قابلاً للبيع، والبلد سوقاً لبيع وشراء المناصب والوجاهة، والجدارة تقاس بمن يدفع، ويثبت ولاءً أكثر للإمبراطورية البريطانية. وبذلك أسسوا شبكة من المنتفعين، ومكنوا الخونة والرعاع من تقلد مسؤوليات قيادية، وخلقوا تركيبة اقتصادية وثقافية حتمت الاعتماد عليهم. وما زالت الهند تعاني من تبعات ذلك حتى الآن. فقد أظهرت دراسة لمنظمة الشفافية الدولية عام 2017 أن نحو 50 في المائة من الهنود لديهم تجارب أولية في دفع الرشوة.
2 - تفريق وحدة المجتمع، ببلورة تصنيفات متعددة لأبناء الشعب. فالمستعمر لم يتعامل مع الشعب الهندي ككيان واحد، بل قسمهم إلى فرق مختلفة وفقاً: للغة، الدين، الطائفة، العرق واللون. فصنفهم إلى: مسلم وهندوسي، وهندوسي وسيخي وياني، وسني وشيعي. وصنفهم أواخر القرن الثامن عشر إلى أربع طبقات: البراهمة، والنبلاء، والبرجوازيون، والحرفيون. وهذا تم بتعاون عدد من البراهمة كمستشارين له لتفسير وتحريف النص السنسكريتي القديم. والنتيجة كانت نيل البراهمة المرتبة العليا في التصنيفات واستحواذهم على 90 في المائة من الوظائف المتاحة للهنود بالخدمة العامة، وهم لم يكونوا يشكلون إلا نسبة 10 في المائة من السكان، كما ذكر ثارور. فجسد المستعمر بالتالي أفكاراً مستحدثة تنطلق من اختلاف الهوية، لم يدركها الشعب الهندي قبل الاستعمار، أدت لتفكيك نسيجه الاجتماعي بطغيان الانتماءات الطائفية على الانتماء الوطني، وتفشي روح الانتقام بين الطوائف والطبقات المكونة للشعب.
3 - ترسيخ أطر الطوائف المختلقة، ومسخ الهوية الوطنية، حيث أجرى المستعمر إحصاءات سكانية تعتمد التصنيفات الجديدة، وإعادة كتابة تاريخ البلد بشكل يركز على إبراز الاختلافات والصراعات والمعارك السابقة بين الأعراق والطوائف والأديان. ومنها كتاب جيمس ميل «تاريخ الهند البريطانية» عام 1817، الذي قسم تاريخ الهند إلى ثلاث مراحل: حكم الهندوس، وحكم المسلمين، ثم الحكم البريطاني. ودراسات عديدة لإثبات أن العرق الآري هم المستوطنون الأصليون للهند. ثم أغوى الشعب ودفعه للافتنان بالهوية البريطانية والتنكر لهويته الحقيقية، فالتعليم أصبح لزاماً باللغة الإنجليزية، ويعتمد على نتاج الأدب والثقافة الإنجليزية. وبذلك نجح المستعمر البريطاني، بنهاية القرن التاسع عشر، في إيجاد شريحة كبيرة من الشعب الهندي متشبعة بالأدب والثقافة والفلسفة والأفكار السياسية البريطانية، تميل بالولاء له.
والمتأمل لحال الأمة العربية الآن، يجدها لا تختلف كثيراً عن حال الهند أبان الاستعمار البريطاني. فـ«كورونا» الفتنة، نشره مستعمرون فرس وأتراك وروس وغربيون وغيرهم، ببعض دولها. ويسر الأمر عليهم وسائل الاتصالات والتواصل الاجتماعي الحديثة، حيث لم يحتاجوا أكثر من طواقم سفاراتهم وشركاتهم وحفنة من العملاء. وهم يسعون، بحجج الحرية والعدالة وحقوق الإنسان والتنمية، لتنتشر فيروسات الوباء بجسد باقي الدول العربية.
فوفقاً للتقرير السنوي لمؤشرات الفساد 2019 الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية، تذيلت 3 دول عربية قائمة الدول الأشد فساداً بالعالم، وهناك 10 دول عربية بين أشد 50 دولة فساداً. وتفاوتت مراتب بقية الدول العربية بين 21 إلى 106. لذلك لا تستغرب الدول المصابة، من تبوء مستويات متدنية لمراكز القيادة بالمؤسسات الحكومية والتجارية والإعلامية والثقافية لديها.
أما التصنيفات بعالمنا العربي، فحدث ولا حرج. فهناك العربي والكردي والأمازيغي والمتجنس، والمسلم والمسيحي، والسني والشيعي والدرزي والعلوي والأباضي، والمتزمت و«الإخواني» و«الصحوي» والمتحرر والعلماني والرجعي والتقدمي، وغيرها. وأصوات كل طائفة تعلو متشدقة بانتماءاتها الجزئية وليس للهوية الوطنية. ولا يتوقف كيل الاتهامات والسباب للنخب والرموز والمفكرين الوطنيين بكل دولة. وكل يوم هناك إصدار جديد لدراسات بالجغرافيا التاريخية، تستهدف بمنهج مسير من الحاقدين مسخ الهوية الوطنية والتشكيك في التاريخ ومنشأ اللغة والعرق العربي. وإذا ما تساهلنا الأمر، ستأتي المرحلة القاضية للوباء التي يستنكر عندها أفراد الشعب عادات وتقاليد وقيم وثقافة ودين دولهم. ويرفضون كل برنامج وطني، لأنَّه ضد هويتهم الطائفية. وهذا أقصى ما يتمناه العدو البغيض.
لذلك احترسوا يا عرب باحتواء وتحصين دولكم من «كورونا» الفتنة شديد الخطورة. فنتيجته استنزاف للثروات والقتل والمجاعة والتشريد والمذلة للشعوب. والأمثلة واضحة نراها أمام أعيننا.
التعليقات