الأسبوع الماضي اشتكى نك كلج، مدير الشؤون الدولية في مؤسسة «فيسبوك»، وكان نائباً لرئيس الوزراء في بريطانيا حتى وقت قريب، من أن هناك كماً من «الأخبار الكاذبة والمضللة وإعلانات الأدوية المزيفة» توضع على الشبكة لها علاقة بالوباء، وتحاول «فيسبوك» - كما قال - محاصرتها، لكنها لا تستطيع كلياً بسبب الحجم الضخم المتدفق؛ ولذا فقد وظفت عشرات الآلاف من العاملين في أنحاء العالم من أجل الفرز والمتابعة وشطب تلك الأخبار المزيفة. ويضيف، أن المشكلة هي أن المتلقي يفضل أن يسمع الأخبار التي يرغب في سماعها حتى لو كانت غير دقيقة في هذه الفترة الحرجة من تاريخ العالم وهي غير مسبوقة، فلأول مرة يتزامن توفر وسائل ضخمة للتواصل بين الناس من جهة، ووباء متفشٍ على مستوى العالم من جهة أخرى، وهذا التزامن غير مسبوق في التاريخ الإنساني.. أي سرعة وسهولة انتشار الأكاذيب وترويجها!

لستم هناك وحدكم، ففي الفضاء الإعلامي العربي المرئي والمسموع والمتداول «الجماهيري» كم ضخم من هذه الأخبار «غير الدقيقة» على أفضل توصيف متحضر، وهو كمٌّ بدلاً من أن يضحك يبكي. والفرق بيننا وبينكم أن لا أحد عندنا يتصدى لدحض تلك الأخبار المزيفة وفضحها وتقديم البديل الصحيح إلا في القليل النادر. عندما يعود باحث جاد للنظر في تحليل المضمون الإعلامي الناطق باللغة العربية في معظم الوسائل (الصحافة والإعلام المرئي ووسائل التواصل المفتوحة) لهذه الفترة التاريخية قد يرى العجب. فليس الشخص أو المواطن أو المواطنة القائل بما لا يصدقه العقل من «ترهات» وبثها على العامة هو الملوم فقط، لكن الأهم كيف له (أو لها) الحصول على «زمن على الهواء» كي يوزع خرافاته على الناس. أمثلة صاعقة سمعناها في الأسابيع الأخيرة، وهي غيض من فيض، مثلاً أبدأ بالكويت. فقد نشر أحدهم على وسائل التواصل الاجتماعي وصفة لمحاربة «كورونا» في البيت فقال «عليكم بالبصل؛ اشطروه شطرين ووزعوه في حجراتكم!» فشح البصلُ من الأسواق! لم يخرج أحد ليقول إن تلك وصفة «ضيزى»، بل وقد تكون ضارة. في تفسير آخر لمحاربة الوباء خرج علينا أحدهم ليتحدث عن «الفول» في كلام قريب إلى التخريف، ويجد من يستقبله على محطة تلفزيونية ويروّج لوصفته. أما وصفة «الشَلَوْلَوْ» كما قال أحدهم وانتشر قوله، وهي «طبخة ملوخية»! فيها الكثير - كما قال - من «الثوم والليمون»! ذلك دواء لرفع المناعة في الوقت نفسه يهز المذيع رأسه موافقاً، وتذاع على الناس. هو أو هي يقول أو تقول ما يريد، فليس المطلوب تكميم أفواه الناس، أما أن يستقبل في لقاء تلفزيوني يعرض على الجمهور العام، فهنا العوار المهني وربما الأخلاقي البالغ الخطورة. مرة أخرى، في الكويت أصرت سيدة على أنها «اكتشفت الدواء الناجع» وطالبت بأن تجتمع بمن هم في الإدارة الصحية، والعجب أن ناصرها بعض العقلاء على وسائل التواصل الاجتماعي، وبالفعل حصل لقاء «المكتشفة» برجال الاختصاص. أن تستقبل بشكل شبه رسمي والكل يعرف أن دواءها «غير واقعي» بأخف التعبيرات الممكنة هو خطأ مهني، لكن المستنكر بشدة أن يخيّم صمت مطبق على أصحاب الاختصاص «بعد المقابلة» ويمتنع عن كشف هشاشة ذلك الادعاء؛ مما يجعل احتمال أن يصدق بعض الجمهور ذلك الادعاء أخذاً بالحالة النفسية السائدة هو احتمال قائم. اتضح من معالجة الجائحة إعلامياً أنه في الغالب ليس هناك «أجندة واضحة تحكم المحتوى» فكثير من تلك الأجهزة الجماهيرية لم تقم بإنشاء «غرفة عمليات» تضع استراتيجية إعلامية تنتقي بشيء من الدقة وبوعي ما يقال للجمهور وما يجب ألا ينقل أو يقال. غرفة العمليات تلك أو غرفة التفكير غائبة، كما أن متابعة «أخبار التضليل والمعلومات الكاذبة» لا توجد لها آلية في معظم وسائل إعلامنا أو مؤسساتنا فيقع المشاهد «ضحية» سهلة للأقاويل والتخرصات. على سبيل المثال لا الحصر، ماذا ينفع المشاهد العربي من تكرار صور أسرّة المستشفيات والبشر في حالة صحية خطرة، أو ماذا ينفع المشاهد عندما تعرض له شوارع المدن الغربية وهي خالية من الناس! تلك مشاهد سلبية لا أكثر واستهلاك الوقت! وتستمر تلك المشاهد للترديد مرات ومرات وهي في الغالب لا تقدم محتوى إيجابياً، وآخرون يصرون على ترديد السؤال الذي بُحّت حناجر الموثوقين من العلماء أنه غير صحيح «هل صحيح أن درجة الحرارة تقتل الفيروس»؟! هذا السؤال تردد ولا يزال يردد بإصرار عجيب. من جهة أخرى، وجد البعض فرصة لتعظيم مساحة «سمعته» المهنية بالحديث عن «العلاج النفسي» وبدأ ذلك البعض يزجي النصائح على وسائل التواصل الاجتماعي عن بعد وبشكل معمم على افتراض أن معظم المجتمع أصبح مضطرباً نفسياً. أنا أتحدث هنا عن المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية والمهنية التي يجب أن يتحلى بها المهنيون في أغلبية وسائل الإعلام من أجل فرز الحقائق عن الإشاعات والخرافات ورفع الروح المعنوية لدى الجمهور المتلقي والركون إلى أفضل المتخصصين ذوي الخبرة، ذلك ما أتصور أنه من أول أهداف تلك الوسائل.

على مدى الأسابيع الأخيرة عرفنا أن دواء «كورونا» قد اكتشف في كل من الكويت والعراق ومصر ودول أخرى، وكل ذلك روّج له على وسائل التواصل الاجتماعي. صحيح أن هناك عقولاً استهجنت تلك الأخبار وعرفت من خلال منهجية علمية تحلت بها أن كل تلك «أخبار ومعلومات كاذبة»، لكن الصحيح أيضاً أن هناك من اعتقد بها ودافع عنها، ولعل الأكثر إيلاماً وفداحة أن البعض قد ربط مقولاته «في العلاج والشفاء» من هذه الجائحة الكبرى التي تضرب البشرية قاطبة بالعودة إلى مقولات تراثية، وروئ منامية وأحداث تاريخية ليس لها علاقة بما يحدث. كما قيل في أوساط معينة، إن هذا الوباء من عمل الجن، ولا غير الجن من يسارع لطرد هذا الوباء، أو من يطوف على أسرّة المرضى في بعض الدول ليطعمهم بعضاً من «مخلوط» غامض يرى أنه شافٍ، الأنكى، أن هذا الشخص مع الأسف توفي وذهب ضحية جهله وتجهيله للآخرين. أما التسييس الذي انتشر فهو ليس خروجاً على السائد، بل هو خروج عن العقل بشكل كامل، فما زال البعض يردد عن قناعة ويشيعها بين شعبه أن هذا الفيروس من صنع أميركا لمهاجمة بلده! وهو يرى رؤية العين عدد الضحايا في أميركا نفسها يتصاعد، ولا أحد قادراً أن يُنهيه بالقول كف عن ذلك الهراء من فضلك واحترم عقولنا، فهل يعقل أن تضر أميركا نفسها فقط لأنها تريد أن تطيح نظامك «المزدهر»؟! باختصار، إنه عصر «الشَلَوْلَوْ» الذي يحاصرنا، وهو ليس جديداً، لكن أصبح مكشوفاً وعلنياً في ثنايا ثقافتنا العربية وجزء منها قد شُل وخُدر، ثم عُلب حتى عاف هذا الجزء التفكير العقلي كما خاصم المنطق الإنساني.