كان الفصل ربيعًا والعمر ربيعًا، وكان الربيعان في عمر الثمانينات من القرن الماضي، قرن بكامله كان موبوءًا بالحروب، كان شاهدًا على ساحات التناحر بين الكبار للهيمنة على الصغار وعلى الأقل قوة، وصراعًا مضادًا ضد الغزاة الكبار. تحت ظلال هذه الربيعيات الساخنة، جمعتني صدفة جميلة، وأنا عائد من اليابان، بالأخ الصديق الدكتور عبدالرحمن بوعلي (بوفهد) في سيئول عاصمة كوريا الجنوبية. كان أخي بوفهد مع وفد حكومي من وزارة الصحة، يحضر مؤتمرًا عالميًا لمنظمة الصحة العالمية.

كان المؤتمر في الفندق الذي جمعنا، وكنت ألتقي به بعد جلسات المؤتمر. في إحدى اللقاءات، وكانت جلسة جانبية بعد انتهاء الجلسات الرسمية، انضم إلينا عضو من الوفد الكوري وآخر من الوفد الياباني. طاولة تجمع أفرادًا من ثلاث قوميات وفي أجواء مؤتمر عالمي عن الصحة، حتمًا سيكون الحديث عن حال الصحة ومستوى الخدمات الصحية في كل بلد. المسافة الجغرافية بيننا وبينهما كبيرة، والمسافة الثقافية أكبر ببعديها الأفقي والعمودي، وكلما زادت المسافات بين نقطتين حيتين كلما نشط أيض الفضول بينهما أكثر، وهكذا كان تفاعل الكوري والياباني في الحديث عن الصحة في بلد صغير في أقصي الغرب من الشرق، فكان اهتمامهما بالبحرين استثنائيًا، وانتقل الحديث من العموميات إلى الصلب الخاص، فوجه الياباني حديثه لي مباشرة، وهو يتفادى توجيهه إلى أخي بوفهد كونه من وزارة الصحة، قائلاً: «كيف هي الخدمات الصحية عندكم في البحرين؟»، فأجبته، وكان الجواب صاعقًا لهما، أن الخدمة الصحية في البحرين هي من بين أفضل الخدمات الصحية في العالم. اندهش الضيفان من هذا الجواب المباشر والحازم وغير المتوقع، كل على طريقته، فكانت الدهشة المرسومة على وجه الياباني توحي بشيء من الإعجاب وتحفز الفضول، بينما دهشة الكوري كانت تتأرجح بين نسبية الصدق والشك، وأضاف أخي بوفهد على دهشتهما ثقلاً مضاعفًا عندما أفاد بأن ما يميز هذه الخدمات أنها مجانية. وذهب كل منا بعد هذا الحديث إلى غايته، وبعد المؤتمر عاد كل إلى وطنه.

وتعاقبت السنون، ما يقارب الأربعين عامًا، إلى أن جاء يوم الامتحان. دخل فيروس كورونا على جميع الشعوب من أبواب الدول فجأة دون استئذان، مثلما يدخل المدرس الفصل حاملاً أوراق الامتحان، والطالب المجد ينتظر ورقة الامتحان بلهفة الواثق، والمهمل والكسول يضع يده على قلبه، والفارق بين امتحان الصحة وامتحان التعليم، كالفارق بين الموت الذي لا حياة بعده (لا إعادة في الامتحان) والرسوب الذي يمكن إعادة الامتحان لتحقيق النجاح.

مع هذا الامتحان الصحي الحازم والصارم الذي يرسم خطًا واضحًا مرعبًا، لا رجعة فيه، بين الموت والحياة، فالنجاح هو الحياة والرسوب هو الفشل المطلق أي الموت، ومع هذا الفشل قد تتدحرج بعض الرؤوس وتنهار بعض الحكومات. في الامتحان يكرم المرء أو يهان، نجح الصغار وسقط الكبار، كأي امتحان لا يفرق بين كبير وصغير، بين غني وفقير... عندما يعجز أو يتلكأ الكبير أو الغني عن تأمين أجواء الطمأنينة لأبنائه، بينما الآخرون، وهم أصغر حجمًا وأقل ثروة وأدنى قوة، تتماسك العروة الوثقى بينهم وبين أبنائهم بفضل أجواء الرحمة التي نشروها بين الأبناء، واطمأنت نفوس الأبناء... هنا الفارق والنقيض، الفارق بين الكبير العاجز والصغير المقتدر، والنقيض هنا بالنقيض يضرب، ومعادلة التناقض تحط من قدر ذلك الكبير! المتعالي، وترفع من شأن من هم بالحجم الطبيعي المتواضع.

هكذا فإن الوباء قد رفع الغطاء عن المخفي والمستور، وكان رفع الغطاء اكتشافًا مفاجئًا ومحيرًا، وكان اكتشافًا لحقائق تناقض ما كان من البديهيات قبل الوباء، فقد أخرج الاكتشاف من تحت رماد الإعلام العالمي المزيف أن الدولة العظمى وحليفاتها الكبرى (التحالف الغربي) هي كيانات نخرة في داخلها مقارنة بدول كان نصيب أقواها التشويه والتحريض، ونصيب بقية الدول الإهمال واللامبالاة من هذا الإعلام العالمي الذي يوجه التحالف الغربي دفته. وأهم اكتشاف هو الفارق بين الدولة الوطنية والدولة الطبقية، وهذا موضوع قائم بذاته.

دون الدخول في التفاصيل الرقمية والإحصائية والرسوم البيانية ومقارنة الدول بعضها ببعض، فإنه يكفينا في هذا المقام أن نقارن بين مملكة البحرين، في كيفية ادارتها لنشاط الوباء والتعامل مع تبعاته والعمل على محو آثاره، وبين الدولة العظمى وأختها الكبرى (أمريكا وبريطانيا).

وقبل الاسترسال في مقارنة البحرين بالعظيم والكبير، نعرج على ما قلته قبل أربعين عامًا لضيفينا الياباني والكوري على هامش مؤتمر دوري لمنظمة الصحة العالمية في العاصمة الكورية، فإن الذي قلته في حينه جاء اليوم كورونا للتصديق عليه، والتأكيد على أن الخدمة الصحية في البحرين هي من بين أفضل الخدمات الصحية في العالم.

أقطاب الدولة العظمى تمايلت سكرًا مع بدء الوباء من فرص الربح المالي بفضل انتهازية رفع الأسعار، ولم يكن واردًا في أذهانهم بالمطلق المساهمة في مساعدة الشعوب التي هبت عليها رياح الوباء، ولكن عندما هبت سموم الوباء عليهم ونفذ فيهم وانتشر كالنار في الهشيم فيهم، شلت مفاصلهم وارتبكت عقولهم، فهم أدرى بعجزهم. هم أدرى أن الخدمات الصحية مخصخصة بيد حفنة تتاجر بالصحة العامة وبالطب ولا يهمها سوى تكديس الأرباح، بينما الدولة، بأقطابها وسلطاتها وهيئاتها، هي مجرد أدوات لخدمة هذه الحفنة التي تعبد المال. فأخذت القيادة عندهم ترتعد من الغضب على الآخرين وتتهم هذا وذاك، وتحاول أن تسرق أدوات الوقاية الشخصية من الصين أولاً ومن ثم من حليفتها كندا، ولم تكتفِ بهذا التخبط البربري، بل وجهت سهام فشلها الغاضب تجاه منظمة الصحة العالمية، وهي بكل هذه العربدة تحاول أن توري سوءاتها بنقل أزمتها الداخلية إلى الخارج، وهذه لعبة ساذجة، ولكن الخوف أن هذا الغول قد تجره أزماته مع الداخل، وهي أزمات حادة، إلى حرب كبيرة. المحصلة أن الدولة العظمى إلى الآن قد فشلت في احتواء الوباء.

أما الدولة العريقة في ديمقراطيتها فقد وعدت الشعب البريطاني، منذ بدء الوباء، بأن عليه البدء في فتح مجالس العزاء لأهله وأحبابه، وهي الدولة الوحيدة التي لم تفصح بعد عن عدد المتعافين عندها. وهذه الكبرى هي نسخة أختها العظمى في العجز والفشل، ولا حاجة لسرد المزيد عنها. فمن عرف أمريكا فقد تفقه في بريطانيا.

أما البحرين، فمنذ بدء انتشار الوباء، فقد أشادت بها منظمة الصحة العالمية، واعتبرت البحرين نموذجًا يحتذى به في مواجهة الوباء، وهذه المنظمة هي المرجع والمعيار والسند النصوح في جميع شؤون الطب والصحة ومواجهة الأوبئة. البنية الأساسية للخدمات الصحية في البحرين كانت جاهزة وكانت بيد الدولة (وزارة الصحة)، وكانت الدولة قد أعدت ضمن استراتيجيتها العامة للطوارئ جميع المتطلبات الطبية والوقائية التي قد تقتضيها حالات الطوارئ والأوبئة، ورغم وجود مستشفيات خاصة، إلا أن الخدمات الصحية الأساسية بيد الدولة، حتى القطاع الطبي الخاص نفسه يستعين عند الحاجة بالخدمات الصحية لدى الدولة. الدولة في مواجهتها للوباء تعمل على ثلاث جبهات، الجبهة الداخلية والجبهة الإقليمية والجبهة العالمية. إقليميًا تتعاون مع دول مجلس التعاون الخليجي وتمد دول المجلس بالمساعدة المطلوبة، وعالميًا تتعاون مع منظمة الصحة العالمية بتبادل المعلومات والخبرات ومتابعة التطورات والمستجدات.

داخليًا تعمل الدولة بشكل أساسي و من باب الأولوية على المحور الصحي والطبي، والمحور الاقتصادي، والمحور الإعلامي، ودعم من الوزارات حسب مسؤولية كل وزارة. وهي بهذا الجمع والتفاعل بين المحاور الثلاثة تحقق تقدمًا ملموسًا في مواجهة الوباء، والدليل أن نسبة المتعافين عندنا، مقارنة بامريكا وأوروبا وغالبية الدول، هي الأعلى... ولتحقيق هذا التقدم كان لا بد من ترجمة الخطط على أرض الواقع، فقد عملت الدولة على تجهيز طاقم طبي خاص من ذوي الكفاءة و الخبرة للعمل علي مدار الساعة، مراقبة الأسعار، توفير المواد الغذائية والأساسية، توفير أجهزة الوقاية الشخصية، توجيه البنوك لوقف اقتطاع اقساط القروض، إدارة نهج العزل في البيت وفي العمل وفي المجتمع، واتباع نهج التعليم عن بعد لطلاب المدارس، تحمل الدولة جزءًا من رسوم الكهرباء والماء، تسخير أجهزة الإعلام الرسمية للتواصل و شر الوعي الصحي والوقائي. لقد ساهمت كل هذه الجهود في تحقيق هدف أسمى من مجرد صد الوباء، وهو تعزيز الروح الوطنية في نفوس جميع المواطنين، وقد تولد من هذه الروح الوطنية حملة «فينا خير» التي دشنتها المؤسسة الملكية للأعمال الإنسانية، وحققت الحملة في يومها الأول حصيلة تجاوزت 21 مليون دينار من التبرعات، بدءًا بمليون دينار الذي تبرع به نجل جلالة الملك المعظم سمو الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة. ما كان بالإمكان تحقيق الوقفة الواعية والصامدة أمام أزمة الوباء لولا حكمة القيادة متمثلة في جلالة الملك المعظم وسمو الأمير رئيس الوزراء وسمو الأمير ولي العهد، مع استجابة رشيدة وصادقة وفاعلة من أركان الحكومة، وتجاوب شامل منقطع النظير من المواطنين كافة بالمقام الأول ومن ثم الوافدين.

إن مملكة البحرين، في صراعها ضد الوباء، تقف رافعة الرأس واثقة مطمئنة أمام حقائق كبيرة كشف الوباء عنها الغطاء، وهذه الحقائق ترفع من شأن مملكة البحرين، حكومة وشعبًا، أمام الدولة العظمى والدول الكبرى ودول هي، في عرف التقليد السياسي والإعلامي، دول لها شأن بين الكبار والصغار. دون ضجة إعلامية ولا دعاية سياسية ولا تبجح ولا إدعاء عملت مملكة البحرين، قيادة ودولة وشعبًا، يدًا بيد لصد هذا الوباء وتأمين السلامة والصحة الدائمة لكامل الشعب في المملكة دون تمييز.

خاتمة المقال كلمات ثناء وتقدير من أعماق القلب مع باقات ورد معطر فوق عطره بطيب المسك نرفعها إلى كل طبيبة وممرضة، وإلى كل طبيب وممرض، وإلى كل من يمد يد العون مباشرة للطاقم الطبي، هذا النفر من بناتنا وأبنائنا الذين يجاهدون في الخطوط الأمامية ضد العدو الفيروسي يواجهون العدو مباشرة وحياتهم معرضة للخطر، يعالجون المصابين ويقفون سدًا منيعًا لحماية كل من يعيش على هذه الأرض الطيبة. والكل، من مواطن ووافد، يحمل لكم أسمى آيات الحب والإجلال والتقدير.