لا أعرف من أين أبدأ في رثاء قامة دينية وإنسانية لها صولاتها وجولاتها في عالم النبل والتواضع وحب الخير لجميع بني البشر. لا يمكن للوجع الضارب في أعماق النفس أن يخفّف لوعة فقد مطران الروم الكاثوليك النائب الرسولي لشمال شبه الجزيرة العربية قداسة المطران كاميلو بالين، ولا يمكن للدمع أن يكفكف آلام رحيله.

فاجعة وفاة قداسته أثارت غصّة في الحلق، وانطفاءً لومضة نبل إنساني، رحل عن دنيانا تاركًا لنا طيب عمله وحسن سيرته، ونقاء سريرته واجتهاده الخيّر في بناء الأرض وإعمارها على أسس حميدة من التسامح والتآلف والتعايش بوئام.

رغم مكانة قداسته الدينية الرفيعة جدًا كونه معيّن من الحبر الأعظم، إلا أنه كان متواضعًا، دمث الخلق، باب التواصل معه مفتوح على الدوام أمام الجميع، كان رمزًا للإخلاص والوفاء، كريمًا في عطائه، صادقًا وموضوعيًا في تعامله مع الآخرين.

عندما كان عضوًا بمجلس أمناء مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي، كان دائمًا -رحمه الله- ما يردّد لي بأن مملكة البحرين استثنائية في تسامحها الكبير وحرية ممارسة الشعائر الدينية على أرضها المباركة، والتي لم يرَ مثل هذه الخصال أو المميزات في أي مكان آخر في العالم بأسره.

كما كان قداسته يؤكد لي في أكثر مناسبة أن مملكة البحرين دولة مسلمة ولكنها نموذجية وفريدة في احترامها للأديان والطوائف الأخرى، متفوقة بذلك على غالبية الدول حول العالم وحتى تلك التي تشكل فيها المسيحية حصة الأسد. لقد وجد الفقيد بالبحرين واحة سلام، وهي المكان الأنسب لبناء صروح الدين والعلم وتهيئة الأرضية الخصبة لترسيخ قيم المحبة والتعايش السلمي.

كان لمملكة البحرين في قلب الفقيد قداسة المطران مكانة خاصة، والتي أصبحت مقر إقامته الرئيسي وبيته الثاني، لإعجابه البالغ بقيادتها الفذة ممثلة بحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى -حفظه الله ورعاه- وحسن ضيافة مجتمعها وتسامح شعبها.

ترأس قداسته مجلس إدارة كنيسة «ليدي أوف أريبيا»، والتي يجري تشييدها على قطعة أرض وهبها عاهل البلاد المفدى تبلغ مساحتها 8788 مترًا مربعًا، لتكون أكبر كاتدرائية على مستوى المنطقة وستتسع لـ 2300 شخص، إلى جانب مكاتب ومسكن للأسقف وساحة تكفي لـ 6000 آلاف شخص من الزوار والمصلين.

قد يجلب استذكار محطات الفقيد شيئًا من السلوى، ولكنها لن تعوّض فراق شخصية إنسانية ودينية رفيعة بقيمها وأخلاقها الحميدة وصنعه للخير في حله وترحاله، عزاؤنا الوحيد أن ذكراه ستظل باقية طالما حيينا، نور إيمان قداسته ونبل مقصده سيبقى متّقدًا لأجيال قادمة تسير على دربه وتنهل من تواضعه وحبه لفعل الخير للجميع على اختلاف طوائفهم ومعتقداتهم.

رحمك الله يا قداسة المطران، مقدمين أحر التعازي والمواساة لعائلتك ولاتباع الديانة المسيحية والكنيسة الكاثوليكية على مصابنا ومصابهم الجلل، سائلاً العلي القدير أن يتغمّد الفقيد بواسع رحمته، ويلهم ذويه الصبر والسلوان.

إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراق قداستك لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، إنا لله وإنا إليه راجعون.