ربما سيمضي وقت طويل قبل أن يظهر شخص آخر غير «مايكل هاي» الذي عشق كوريا الشمالية وراهن على نظامها الحديدي لأسباب شخصية لا علاقة لها بالأيديولوجيا، فافتتح المكتب القانوني الأجنبي الوحيد في بيونغيانغ.

عـُرف هذا البريطاني المولود لأب اسكتلندي وأم فرنسية، والذي تُوفي مؤخرًا في سيئول وأُحرق جثمانه بناءً على وصيته، بأناقته وكرمه وظرافته وحبه للمغامرة والعمل المتواصل، وبألمعيته في مجال تخصصه.

يقول عنه الصحفي أندرو سالمون إنه حصل أولاً على درجة الماجستير من كلية القانون بجامعة شيكاغو ثم دكتوراه القانون من جامعة أدنبره، وإنه وجد وظيفة مرموقة في سلك المحاماة بمدينة نيويورك، لكنه آثر بسبب طموحاته أن يترك الولايات المتحدة سنة 1990 للالتحاق بالعمل لدى شركة «باي، كيم، أند لي» الكورية الجنوبية في سيئول كمختص بالتحكيم. وقد أثبت في هذه الفترة أنه شخصية قانونية كفوءة ولماحة وذكية وماهرة في عملها، بدليل اختياره من قبل مجلة «Asia Law» واحدا من أبرز المحامين في آسيا في السنوات 1999، 2000، 2001.

مهدت خطوة انتقاله إلى سيئول لما سيتحول بعد حين إلى غرام وعشق جارف لكوريا الشمالية، نظاما وشعبا وبيئة وتقاليد. حدث ذلك في الفترة التي كانت فيها سيئول تحضر لإطلاق «سياسة الشمس المشرقة» بهدف التصالح مع بيونغيانع والانفتاح عليها، أملاً في السلام وإنهاء الحرب بين الكوريتين. وقتها، وتحديدًا في عام 1998، قام هاي بأول زيارة له لكوريا الشمالية، في وقت شعر فيه بأنه صار أكثر أهمية من مجرد محكم في شركة كورية جنوبية. ويُعتقد أنه تخيل نفسه بطلا أرسلته العناية الإلهية للعب دور تاريخي في شبه الجزيرة الكورية، شبيه بالأدوار التي لعبها مواطنوه في الحقب الاستعمارية، مثل لورانس في جزيرة العرب وجيمس بروك في بلاد الملايو.

سرعان ما نجح الرجل في تخطي كل العقبات وترسيخ أقدامه في دهاليز البلد الستاليني عبر عقد صداقات عديدة، وبالتالي الحصول على ذخيرة من المعلومات التي ساعدته في شق طريقه. وفي أعقاب قمة 2000 بين الرئيس الكوري الجنوبي كيم داي جونغ ونظيره الشمالي كيم جونغ إيل، تمّ منح هاي رخصة استثنائية لتأسيس أول مكتب استشاري قانوني أجنبي في بيونغيانع تحت اسم «هاي /‏ كالب وشركائهما»، علما بأن «كالب» لم يكن شخصا وإنما الأحرف الأولى من عبارة «مستشارو كوريا في القانون والأعمال»، أو (Korea Advisors on Law and Business)، أما الشركاء فلم يكونوا سوى المحامين المحليين العاملين لدى وزارة التجارة الخارجية.

وهكذا، ففي حين كان الكثيرون يشككون في وجود القانون أصلاً في كوريا الشمالية، مندهشين مما يقوله هاي عن كسبه قضية ضد معارضين محليين، فإن الرجل مضى يمتدح قوانين تلك البلاد وقضاتها ومحاميها، واصفًا إياهم بالرائعين، دعك من التصريح عن إعجابه بجمال البلاد وطبقتها الوسطى ومجمعاتها التجارية وأبنيتها الفخمة ومطاعمها الهادئة الجميلة.

غير أن ما تمّ التحقق منه هو أن سلطات بيونغيانغ كانت تحظر عليه تمثيل المواطنين أو رعايا الصين أمام محاكمها، تاركة له تمثيل حفنة من رجال الأعمال المغامرين من دول أوروبا وجنوب شرق آسيا، علاوة على تمثيل السفارات والمنظمات الأجنبية العاملة في بيونغيانغ.

ما حدث بعد ذلك هو أن المحافظين استلموا السلطة في سيئول عام 2008 وأسدلوا الستار على عقد من سياسة الانفتاح على نظام بيونغيانغ المشاغب، بما في ذلك إيقاف السياحة البينية وإغلاق المنطقة الصناعية الحدودية المشتركة. وبالتزامن، صعّدت بيونغيانغ تحرّشاتها وإطلاق صواريخها الباليستية تجاه الجنوب واليابان، الأمر الذي ردّت عليه واشنطن بتكثيف عقوباتها ضد الشمال، وتحديدا حظر التحويلات المالية منها وإليها، وهو ما زرع الخوف وعدم اليقين لدى الصينيين وغيرهم ممن فتحوا قنوات تجارية واستثمارية مع كوريا الشمالية. وعليه، بارت أعمال هاي، واضطر في النهاية إلى غلق مكتبه في بيونغيانغ سنة 2016 والذهاب الى فرنسا في محاولة للملمة وإعادة ترتيب أعماله، والتفكير في خطوته التالية التي لم تكن سوى العودة إلى كوريا الجنوبية.

الذين التقوا به بعد عودته الى سيئول سنة 2018 أجمعوا على أن الرجل بدا وقتها وقد هرم كثيرًا وفقد الثقة في نفسه، لا سيما بعد أن أدرجته وزارة الخزانة الامريكية في قائمتها السوداء، بل كان يحيط نفسه بالحرس ذعرًا وخوفًا، ولا ينطق اسم كوريا الشمالية إلا همسا وبعد أن يتلفت يمينًا ويسارًا. وربما ما أدى إلى إحباطه أن كوريا الجنوبية التي عاد إليها لم تكن تلك التي استقبلته بالأحضان عام 1990. ففي فترة ابتعاده عنها في «جنة» الشمال حدثت تحولات كبيرة في الجنوب، وضاعت عليه فرص كثيرة من تلك التي أبرزت أناسا أقل منه موهبة وعلمًا.

وكالكثيرين من الكوريين الشماليين المنشقين ممن يجدون صعوبة في التكيف مع أنماط الحياة الجديدة عليهم في الشطر الجنوبي، وجد هاي بعض الصعوبة بعد مغامرته المجنونة وانخراطه بالطول والعرض مع الشماليين. واستمر على هذا الحال من الإحباط واليأس، ثم زاد إحباطه بعد فشل القمم الأمريكية - الكورية الشمالية التي تمنى نجاحها كي يعود الى بيونغيانغ مجددًا، إلى أن تُوفي عن 58 عامًا في فبراير المنصرم.