لم يحصل أن كتب عن أديب مبدع بوجهات نظر مختلفة متضاربة ومتقاطعة، مثلما حصل وما زال حتى اليوم محل أخذ ورد ومدار شكوك وقناعات سواء في كتاباته أو شخصية مثلما هو كائن مع صاحب رواية (المسخ) الكاتب التشيكي/ الألماني فرانز كافكا، وكان ذلك الاهتمام بعد أن صدرت رواياته وقصصه بعدة ترجمات ومنها رواية المحاكمة – القلعة – سور الصين العظيم- أمريكا، ثم لحقت بها اليوميات التي كانت بدايتها 1910 إلى 1923 التي جمعها ورتبها صديقه (ماكس برود) الذي ترك لديه مخطوطاته من القصص والروايات والخواطر واليوميات موصياً إياه أن يحرقها وأن يغيبها عن الوجود، غير أن صديقه الذي يعرف قيمة ما تحتويه تلك الأوراق من آثار إبداعية اتسمت بالمغايرة لما هو سائد والتي تشير إلى نوع متفرد ينبئ عن عبقرية متمكنة من ملامسة الأرواح والأذواق البشرية في دفعها إلى التأمل في الدخول انتقالاً إلى عوالم غير مألوفة في الكتابات الكثيرة التي تطفو على السطح وتتناولها الأيدي القارئة، وكان في نظرته يعرف أن القيمة الحقيقية لهذه الوديعة التي تركها مبدعه تكمن في نشرها لتضيف إلى الإبداع جديداً يخلد صاحبه ويكون مشعلاً لطريق يسلكها.

موهوبو الكتابة المتتالون بعده، وكان ما توقع برود وشاهد الآثار المتعقبة للإرث الأدبي التي تمثلت في النقاشات والدراسات حول أعمال كافكا الأدبية وشخصيته وسلوكياته في حياته التي لم تمتد طويلاً مع المرض الملازم له وحياته الخاصة التي وهبها للكتابة (الأدب) كما يردد على الكثيرين ممن اقتربوا منه وخاصة المعجبين/ المعجبات، وكان للملاحقات المعجبات أو من جمعه بهن العمل أو المصادفات في إقامته أو رحلاته، وكان من بينهن من عملت سكرتيرة له أو مترجمة تحولت إلى مقربة منه مما يلوح لها أنها ستكون زوجة، وهناك من خطب منهن وفسخ خطوبته ثم عاد لخطيبته ثم فسخ مرة أخرى، وهذا بفعل المزاج اللا مستقر الذي ينفره منهن مع تحمل البعض منهن له ولكن حسب ما يصف هو ملله من العمل "وظيفتي لا تطاق لأنها تتعارض مع الأدب، وهو طموحي الوحيد ومهنتي الوحيدة، أنني لا شيء سوى الأدب، ولا أستطيع أن أكون غير ذلك"، يؤكد عدم صلاحيته إلا للأدب ويعاني من أجله وينوي أن يترك عمله الذي يعتاش ويصرف من خلاله على حياته بالكامل في حله وترحاله، ومع ذلك يرى أن حب الأدب قد استولى عليه، ولكنه لا يوليه الاهتمام النشري بقدر ما يعطيه من قضاء وقته كتابة وقراءة، ليس في عدم ثقته فيما توصل إليه من تمكن في إجادة صناعة وممارسة الكتابة، ولكن يرى أن هناك ما هو قادم مختلف سيضيف، وتمضي به سنوات العمر ويستبد به المرض الذي عانى منه معظم عمره القصير، فلم تكن شهرته فيما أحب في حياته بل صارت بعد رحيله عن الحياة لتستولي على مساحة كبيرة عريضة وطويلة، أفقية ورأسية جعلت منه كاتباً عالمياً في مصاف العالميين الكبار الخالدين.

الحياة تمتد وتطول وتأتي بالمفاجآت وتذكر بالركائز والأساسات التي هي عناصر ممارسة الإنسان لسلوكيات بين حب وكره، ولكن الحب يبقى هو الأقوى والأقدر على البقاء والتنامي بين البشر، مهما كانت هناك من احتكاكات أو صدامات، في محاولة تحولت إلى عمل جاد وضع صاحبته في دائرة الروائيين تمكنت الكاتبة (جاكلين راوول دوفال) من تسجيل سيرة حياة كافكا بطريقة السيرة الغيرية، لكون السيرة الغيرة ما يكتبه الآخر عن الشخصية المراد تسجيل مسيرتها كتابياً، وجاءت السيرة كذلك مغايرة لما دأب كاتبو السيرة الغيرية على اتباعه من طريقة تكون مشابهة للمذكرات المتتالية، لكن الكاتبة في عملها المبتكر هذا ذهبت إلى كتابة رواية عن حياة (فرانز كافكا) من خلال بعض كتاباته ورسائله، فركزت على النساء اللائي ارتبطن معه بعلاقات عملية وصداقات، وسمتهن بالخطيبات، للخاطب كافكا، فروايتها (كافكا الخاطب الأبدي) الذي مضت حياته يخطب أو يخطبنه، ولكن لم تثمر هذه الخطبات التي طالت أربعاً من المقربات إليه عن زواج حيث عاش عازباً مدة حياته، غير أن رسائله كانت تتسم بالحب والشوق والتحليق في رومنسيات تتماهى مع قصائد العاشقين وتتجاوزها في بعض الأحايين، ولكن الأربع اللائي بدأن بـ "فيليس- جولي- ميلينا- دورا" قد تلقين رسائل من المحب والمحبوب على مستويات مختلفة يكون فيها المزاج الكفكاوي هو المتحكم والموجه باختلاف درجات منعطفاته في حالات مختلفة ولكنها لا ترقى إلى العنف، إذ تكون في التباعد الذي ربما يكون مقدمة لتقارب أكثر، فالكاتبة اتكأت في روايتها على الكثير من "رسائل كافكا إلى إميلينا" بعد سردها لحياة كافكا مع فيليس وتقدمه لخطبتها إلى حد لم يتبق إلا كتب الكتاب، فيحدث أن تكون المزاجية الكافكاوية المتعلقة بالأدب أن تتسبب في فسخ الخطوبة، وبمرور الشهور تكون العودة للخطيبة ولخطبتها مرة أخرى ويكون مصيرها كما أولها، وتكون جولي هي الخطيبة الثانية وتسير في هدوء وتفاهم ولكن التأكيد عليها من قبل الخاطب يكون متراخياً بالرغم من صورة المودة بين الطرفين، وفي دور ميلينا يستوجب بأن تكون الوقفة طويلة بعض الشيء لكون الرسائل المتبادلة بينهما هي المثلث الذي قامت عليه الرواية السيروية، "كان لقاؤهما الأول بمقهى أركو، إذ دخلها كافكا ليشرب أحب مشروب إلى نفسه، شوكولا ساخنة يعلوها جبل من قشدة وكان يجلس إلى الطاولة وحيداً.. تقدمت صوبه:

دكتور كافكا؟ أنا ميلينا ييسنسكا، وأشارت إلى زوجها (ارنست بولاكا) تعرفه على ما أعتقد؟

كان زوجها يجلس مع امرأة صهباء، قام كافكا من طاولته وانحنى لهذه المرأة التي وقفت أمامه بعينيها الزرقاوين زرقة إلهية، شقراء رشيقة القوام كانت تنظر فيه مباشرة وتضحك من طابعه الأخرق، إذ قلب أناء السكر من دون أن ينتبه إلى فعله، وأخذ يتفحص وجهها ونسي أن يجيبها.

أريد أن أترجم أعمالك إلى اللغة التشيكية: الوقاد-الحكم-التحول-مستوطنة العقاب.

-تريدين تجشم كل هذا العناء؟ لا ينبغي لك.

-بل ينبغي، كتبك هي أهم ما يوجد في الأدب الألماني الشاب، لقد ترجمت الوقاد، وناشرك (كرت وولف) يطلب مني الحصول على موافقتك.

-أنت مترجمة؟

-أجل لقد أخبرتك بذلك قبل قليل، وأيضاً صحفية، فهل أستطيع أن أرسل إليك نصي لتصوبه؟

-هل تسكنين في براغ؟

-كلا في فينا.

تبادلا عنوانيهما، فحيته، وتابعها تنصرف". استحسنها كامرأة متكاملة في شكلها وحديثها وعملها، وفي طرحها لما لم يكن يتوقعه من حسناء مثقفة كما في سابقتيها ولكنها تفوقت جمالاً وثقة في نفسها وعملها الذي أقدمت عليه بداية وشرعت وأكملته دون استئذان منه، ثم بعد طلب الناشر موافقة صاحب العمل أتته عارضة عليه رغبتها في ترجمة أعماله الأخرى، وأن يستحضر صورتها ويردد بعض أقوالها في نفسه ليس حباً في الترجمة ولكن ما يشبه الحب للمترجمة التي فاجأته وباغتته في وحدته التأملية التي طالما مارسها في حالات احتياجه للراحة والتخطيط لأعمال إبداعية في محيط الأدب الذي هو حياته وما خلق له حسب ما يردده في مواقف كثيرة يكون فيها في وقت اتكاء على دعامات الفن المتجذرة في ذاته الشغوفة عطاء في مجال الإبداع، فكانت بينهما عملية تواصل بالرسائل حول العمل على الترجمة وماذا ستكون البداية حسب رغبته فيما هو يرى وما هي تحبذ، رسالتان كانتا هما المسببتان لما تلى بعد ذلك من تنوع في الموضوعات التي تطورت إلى نقاشات في مسائل شخصية تتحول في ذهنه إلى أحلام منامات عديدة تحمل صوراً غرائبية انعكست بعضها على بعض كتاباته، سواء في الرسائل أو الكتابات الأخرى.