يحتدم الجدل بشأن شخصية السيدة اليهودية "أم هارون" التي يتناولها مسلسل يعرض في رمضان. هنا محاولة قراءة لصورة اليهود التي قدمها الإنتاج البصري العربي، منذ بدايات الإنتاج السينمائي في بدايات القرن العشرين.

المخرج ايليا سليمان

في عرضه الأول ضمن أيام قرطاج السينمائية عام 1996 أثار فيلم “سجل اختفاء” للفلسطيني إيليا سليمان ضجة وسط جمهور المشاهدين، خصوصاً إزاء المشهد الختامي للفيلم الذي ينتهي بوالديّ المخرج غافيين على أريكة في صالون بيت العائلة في الناصرة، وجهاز التلفزيون لا يزال يعمل، وقبل أن تقفل محطة التلفزيون الإسرائيلي برامجها نشاهد علم إسرائيل يرفرف مصحوباً بالنشيد الوطني الإسرائيلي.

العجوزان نائمان ويستمر النشيد إلى أن تظهر الشاشة البيضاء وينتهي المشهد. هنا راح مشاهدون يصرخون حنقاً وغضباً لمجرد مشاهدتهم تلك النهاية، فشتم بعضهم المخرج واتهموه بالصوت العالي بالصهيونية وغادر سليمان تونس شبه خائب، بعد تجاهل تام لفيلمه من لجنة تحكيم المهرجان.
قبل “سجل اختفاء” بعشر سنوات أطلق المخرج التونسي النوري بوزيد فيلمه الساحر “ريح السد”، الذي أثار ضجة وسط جمهور المشاهدين العرب بخاصة المصريون والفلسطينيون، بسبب وجود شخصية رئيسة في الفيلم لرجل تونسي يهودي عجوز. الضجة لم تكن بسبب وجود يهودي وحسب بل لأن تلك الشخصية إيجابية بالتعريف الدرامي ولا تمثل اليهودي السلبي المحتال المعادي للعرب والبخيل والقواد والمتآمر الذي اعتاد جمهور السينما العربية مشاهدته منذ خمسينات القرن الماضي.

فلسطينيون يهود

في منتصف العقد الأول من القرن الحالي، قمت ببحث لفيلم وثائقي كنت أنوي تنفيذه عن الفلسطينيين اليهود في فلسطين وفي الخارج، وأقصد بالفلسطينيين اليهود هؤلاء الذين ولدوا وعاشوا في فلسطين قبل قيام إسرائيل، واعتبرهم الميثاق الوطني الفلسطيني الذي أقرته “منظمة التحرير الفلسطينية” منذ تأسيسها مواطنين فلسطينيين في الدولة الفلسطينية المستقبلية، وجزءاً طبيعياً من الشعب الفلسطيني. وهم يعتبرون أنفسهم فلسطينيين انتماءً وطنياً هوياتياً في الوقت الذي ينتمون فيه إلى اليهودية كديانة. وعيّن الرئيس عرفات الحاخام موشيه هيرش وهو حاخام لجماعة ناتوري كارتا، وزيراً للشؤون اليهودية في حكومة فلسطينية شكلها بعد أوسلو، كما عيّن الكاهن سلوم من طائفة السومريين اليهود في نابلس عضواً في المجلس التشريعي الفسطيني الأول (البرلمان).
دفن المشروع في أدراج وزارة الثقافة الفلسطينية بعدما حصلت على موافقة رئيس الوزراء الأسبق سلام فياض على تمويل المشروع كما صوّت أحد النقاد العرب، من أصول شيوعية لبنانية، المعروفين في لجنة التحكيم، ضد المشروع في مسابقة للحصول على منحة لإنتاج الفيلم، تقدمت بها إلى الصندوق العربي للثقافة والفنون عندما كان مقرّه في عمان.
صديقي الراحل التونسي جورج عدة، الشيوعي، مناضل ضد الاستعمار الفرنسي وممارسات القمع بعد الاستقلال في عهد بورقيبة والذي سجن في المرحلتين وهو الناشط في المحافل الدولية وفي كتاباته في جريدة الاتحاد التونسي للشغل “الشعب” ضد الحركة الصهيونية ونصرة للقضية الفلسطينية وهو المنتمي، مصادفة بالوراثة، كما أكد أكثر من مرة للدين اليهودي. سألني عن عملي وأنا في مرحلة البحث في فيلمي وقلت له: أعمل على فيلم عن اليهود الفلسطينيين. قاطعني وقال بحزم: هذا أول خطأ ترتكبه يا نصري! نحن لا نقول اليهود الفلسطينين أو التونسيين أو المصريين. نحن نقول الفلسطينيين اليهود والمصريين اليهود…
الهوية الوطنية أولاً ثم الهوية الدينية التي لا نختارها وإنما هي تأتي إلينا بالوراثة.
كنت سأهدي هذا الفيلم إلى جورج عدة صديقي التونسي الذي لطالما قرع جرس الحقيقة.

“إسكندرية ليه”

قبل هذه الأفلام، قدم يوسف شاهين شخصيات لمصريين يهود إيجابية ومن ضمن واقع مدينة الإسكندرية متعدد الأصول الاجتماعية والدينية والثقافية في أربعينات القرن الماضي في فيلمه “إسكندرية ليه”، حيث تلعب الممثلة القديرة نجلاء فتحي دور سارة اليهودية التي تعشق مسلماً، هو ابراهيم الشيوعي المصري الذي يقوم بدوره أحمد زكي. ولعب دور المثقف الأرستقراطي المصري اليهودي ووالد سارة الممثل يوسف وهبي.
لو تتبعنا الكتابات حول فيلم شاهين هذا، فلن نجد أي هجوم على المخرج أو الفيلم ولم يُتهم بالتطبيع مع إسرائيل، مع أن الفيلم أنتج عام 1979 أي بعد عامين على زيارة الرئيس السادات القدس وبعد عام من اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل عام 1978، أي في مرحلة سياسية خطيرة ربما كانت مقدمة كارثية لصفقة القرن التي يتحدث عنها اليوم النقاد الممانعون ضد مسلسل “أم هارون”.
قبل الدخول في مناقشة “أم هارون” المسلسل الخليجي الذي أثار كثيراً من اللغط والهجوم والاتهامات حتى قبل أن تعرض حلقته الأولى في اليوم الأول من رمضان، لنحاول أن نلقي نظرة على صورة اليهود التي قدمها الإنتاج البصري العربي، منذ بدايات الإنتاج السينمائي في بدايات القرن العشرين.

توجو مزراحي

يهود أبطال

في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، عرفت السينما المصرية عدداً من الأفلام التي أنتجها وأخرجها مصريون يهود وغير يهود، قدموا شخصيات يهودية في أدوار البطولة. كان ذلك قبل احتلال فلسطين عام 1948 وقبل قيام الضباط المصريين بثورتهم ضد العهد الملكي عام 1952.
كانت مصر وما زالت الأغزر إنتاجاً في مجال السينما عربياً، وكان من روادها في الثلاثينات مصريون مسيحيون ومسلمون ويهود وأشهرهم توجو مزراحي الممثل والمنتج والمخرج الذي أخرج وأنتج عشرات الأفلام الروائية. ويعود الفضل لتوجو مزراحي في تقديم أول شخصية لمصري يهودي بطلاً لمجموعة من الأفلام قام بها الممثل شالوم، واسمه الحقيقي ليو أنجل، وتحمل اسم شالوم… وفي السياق ذاته، قدّم اسماعيل ياسين سلسلة أفلامه. وكانت الأفلام تدور في إطار كوميدي حول شخصية شالوم المصري اليهودي الصعلوك، يسانده بطل مسلم اسمه عبده.
كما يعود الفضل لتوجو مزراحي في اكتشاف ليلى مراد التي أخرج لها أفلامها الأولى وهو الذي أقنع أم كلثوم بدخول تجربة التمثيل السينمائي في فيلم “سلامة”، عام 1945 من إخراجه وإنتاجه، وتدور أحداثه في عهد الدولة الأموية.

كان لتوجو مزراحي أثر كبير في تأسيس صناعة السينما المصرية منذ الثلاثينات وحتى نهاية الأربعينات، حين تأسست دولة إسرائيل بعد احتلال فلسطين. مزراحي وغيره من المصريين اليهود الذي ولدوا وعاشوا في مصر وكانوا جزءاً من النسيج الاجتماعي المصري ووقفوا ضد قيام دولة اسرائيل والحركة الصهيونية وكانوا يفخرون بمصريتهم، صاروا يتعرضون لمضايقات واتهامات لا أساس لها، وقد هاجر مزراحي مجبراً إلى إيطاليا حيث مات ودفن عام 1986.

صورنا النمطية

ليس في السينما المصرية والعربية فقط بل في كل سينمات العالم وكل بحسب ثقافته، تأسست صور نمطية ثابتة صارت جزءاً من الوعي الجمعي إن كان تجاه المرأة أو الوظيفة أو الأديان والمنتمين إليها أو الطبقات. وكان هناك دائماً صندوق جاهز يحتوي تفاصيل النمط المقدم من لباس أو مهن أو ألفاظ أو سلوك اجتماعي أو حركات أو مظهر خارجي. وكانت تلك الصور النمطية عرضة للتغيير أو التبديل أو الإضافات بحسب المرحلة السياسية، التي يمر فيها بلد الإنتاج، وانعكاس ذلك على الصفات الاجتماعية والنفسية والرؤية، التي تقدم فيها شخصيات الفيلم وما إلى ذلك.
لذا شهدنا في ما يخص صورة اليهودي في الأعمال البصرية السينمائية قبل انتشار الأعمال الدرامية التلفزيونية، اختلافات قفزت بشكل ساطع من اعتبار اليهودي فرداً وجماعة من مكونات المجتمع في الأربعينات، مثله مثل بقية المواطنين، لا يميزه عن غيره في المثالب والحسنات غير الوظيفة أو الدور الذي يلعبه درامياً. فمثلاً قدمت المرأة اليهودية في الأفلام المصرية إما معلمة موسيقى أو خياطة أو مدربة رقص باليه، وقدم الرجل اليهودي كمنتم إلى الطبقة الوسطى يتحدث لغات أجنبية، ويقدّم كمترف صعلوك ظريف عاشق النساء غير الملتزم عائلياً مثله مثل أي ممثل آخر من الأديان الأخرى. واستمرت تلك الصورة غير المتميزة إلى ما بعد احتلال إسرائيل أرض فلسطين. فتبدلت أحوال اليهود في البلاد العربية على كل المستويات فمنهم من هاجر إلى إسرائيل مرغماً أحياناً ومنهم من هاجر إلى أوروبا والقليل منهم بقي في بلاده الأصلية مثل تونس وسوريا ولبنان والعراق. وفي مجال الأعمال البصرية لم يعد اليهودي كائناً طبيعياً مواطناً كما كان بل صار غريباً يثير الشك والريبة ومتهماً بالتآمر والتعامل مع عدو العرب القومي. وحلت صور نمطية جديدة، فقلما تجد يهودياً مقدماً بصورة إيجابية في السينما المصرية أو غيرها من السينمات العربية الأخرى، على رغم وجود مواطنين عرب من اليهود، حافظوا على التزامهم الوطني الصادق تجاه بلدانهم الأصلية في تونس أو المغرب أو لبنان أو سوريا… ورفضوا الانتماء إلى إسرائيل، وهي دولة استعمارية شكل تأسيسها وبالاً على حياتهم الطبيعية في بلدانهم وخلق حضورها شرخاً في نظرة بقية المجتمع تجاههم وحطم ماضيهم ومستقبلهم كعرب.
لذا لن نستغرب ردود الفعل تجاه فيلم التونسي نوري بوزيد “ريح السد”، تحديداً فقد مثل نقلة في الوعي تجاه هذه الفئة من مكونات المجتمع التونسي أي اليهود، وبالتالي أحدث صدمة ثقافية لدى البعض الآخر، خصوصاً أنه جاء بعد ثلاث سنوات من اجتياح إسرائيل لبنان وترحيل منظمة التحرير الفلسطينية بمكاتبها إلى تونس.

الصور ما بعد 1956

كانت المحطات الرئيسة في التعامل السينمائي والتلفزيوني في ما بعد يعتمد على مدى الشعور بالثقة الجمعية في دول الإنتاج في صراعها مع إسرائيل وفي التوجهات التي تضعها أنظمة الرقابة الرسمية على الإنتاج قبل تحققه. ومن هنا طرأت تغييرات جذرية على الصور ما بعد حرب 1956 غير تلك التي طرأت بعد هزيمة 1967 ثم بعد حرب أكتوبر 1973 وما بعدها، ولكن الواضح أنه لم تُقدَّم طيلة هذه السنوات على ما أذكر أي شخصية يهودية إيجابية، حتى شخصية شارلي سمحون الذي منح اسمه للجاسوس المصري رأفت الهجان، والذي تحلى بثقافة عالية وأفق واسع، وكان يتمنى ألا يذهب الهجان إلى إسرائيل بل يرافقه في الهجرة إلى فرنسا ظلّ محشوراً في إطار المصري اليهودي الذي قرر مغادرة بلاده مصر بدلاً من البقاء فيها.

“أم هارون”

اليوم نعيش نقاشاً محتدماً حيال مسلسل من الخليج مخرجه مصري، وكاتباه بحرينيان وممثلوه كويتيون وسعوديون وإماراتيون ومصريون، يطرح للمرة الأولى في بلدان الخليج رواية عن اليهود هناك. وعلى رغم أن المسلسل لم يوضح لنا ما هي الدولة التي تدور فيها الأحداث، إلا أن الغاضبين عليه يتهمون الكويت مرةً والسعودية مرةً والإمارات مرةً أخرى، ولكن الحكاية لا تخبرنا غير أنها تدور في منطقة الخليج في أواخر الأربعينات وبداية الخمسينات، وكانت تلك المنطقة تخضع للوجود العسكري البريطاني.
تعامل العرب وخصوصاً نخبهم الثقافية والسياسية عموماً، مع الخليج وشعوبه ضمن إطار الصورة النمطية المتعالية واعتبار المنطقة خالية من أي تقدم ثقافي أو أي صبغة حداثوية وأن الخليجيين ليسوا سوى بدو متخلفين لا علاقة لهم بالحضارة، وأن كل ما يملكونه هو النفط الذي يدر عليهم الأموال التي تجعل حياتهم رغيدة ومترفة، إلى حد التهتك وأن ليست لهم علاقة بهموم بقية الشعوب العربية والقضية الفلسطينية تحديداً. ويفخر كثيرون من العرب بأنهم ساهموا في بناء دول الخليج بخبراتهم وكفاءاتهم في بدايات الخمسينات وأنهم وصلوا إلى صحراء قاحلة لا علم فيها أو تقدم وأن هؤلاء كانوا يسكنون الخيم، ويركبون الجمال إلى أن جاءت طفرة النفط التي لوثت عقولهم ونفسياتهم، فاستكبروا على من قدم لهم الخبرة والمساعدة والعلم وما إلى ذلك من مركبات مختلطة تنم عن عقد دونية وفوقية لدى الجميع.

هل من الغريب أو الخطير على الأمة أن تكون امرأة يهودية طيبة وقارئة للقرآن ومحبة لأهل قريتها أو مدينتها أو بلدها وهي لا تذكر إسرائيل وتعارض الاتجاهات بين اليهود الداعمين احتلال فلسطين؟


وكان دائماً يسهل مهاجمة ونقد دول الخليج لثراء أهلها وقلما وجدنا بين العرب من إمتلك معرفة وافية عن الواقع الإجتماعي والثقافي والسياسي لدول الخليج. ولذا ما أن يلوح في الأفق خطأ ما يرتكبه أفراد أو دولة خليجية بحق شعب أو قضية عربية حتى تكثر السكاكين لتعمل عملها في جسد المنطقة برمتها ولتوضع في إطار التعامل مع اسرائيل والتطبيع معها وإقامة العلاقات السياسية .
من سوء حظ مسلسل “أم هارون” أن سبقه بأيام ما صرحت به الممثلة الكويتية حياة الفهد حول الأجانب في بلدها وضرورة التخلص منهم بسبب وباء “كورونا”، مع أنها ليست في موقع القرار السياسي للقيام بذلك كما هو الأمر في لبنان مثلاً، الذي قررت فيه السلطة اللبنانية رفض عودة الفلسطينيين اللبنانيين من الإمارات إلى لبنان، البلد الذي يحملون وثيقة سفر من جهاز أمنه العام، ولم نجد تلك الأصوات لإدانة الحكومة اللبنانية.
لقد ربط الغاضبون تصريحات حياة الفهد حول “كورونا” بالمسلسل الذي لم يكن عرض بعد لمجرد أنه يتحدث عن الخليجيين اليهود. صعّد الغاضبون حملتهم ضد حياة الفهد وفريق المسلسل واتهموهم بالتطبيع، وصار تصريح الفهد حول إجراءات ضد “كورونا” ضمن مخطط إسرائيلي جهنمي ضد القضية الفلسطينية.
في الحلقات التي بثت حتى الآن، وأرجو أن يكون الغاضبون قد شاهدوها كلها لكي يكون حكمهم على المسلسل نابعاً من رؤية موضوعية وليس من تعقيدات سياسية وعنصرية وجهل وعدم إدراك الواقع وتصورات مسبقة عن الخليج وعن العرب اليهود الذين رفضوا إسرائيل، ووقفوا إلى جانب الحق الفلسطيني كمواطنين عرب، لم أجد ما يبرر هذا اللغط والهراء عن التطبيع الذي أشعلت ناره الموقدة” قناة الميادين” المعروفة بتمويلها وانحيازها لإيران والممانعين المتحجرين في رؤيتهم القومية التالفة.
في الحلقة الأولى، يمكن أن نقول أن المسلسل ارتكب خطأً في الخبر الذي نسمعه من الراديو حول إعلان دولة إسرائيل من تل أبيب على الأرض الإسرائيلية، وهو خطأ ليس سياسياً فقط بل هو معرفي وركاكة في البحث والكتابة الذي قد يحدث في أهم الأفلام في العالم. وإلى جانب هذا الخطأ هناك خطأ آخر لم يلفت انتباه الغاضبين وهو قول أحد الشخصيات، إمام المسجد، إن اليهود احتلوا بيت المقدس إشارة هنا الى المسجد الأقصى الذي لم يحتل عام 1948 بل احتل عام 1967.
عدا عن هذه الهنات التي تنم عن جهل سياسي من كاتبي العمل وهذا يحدث، فإن “أم هارون”، طرح على رغم سذاجة الكتابة والإخراج مواضيع لم يطرحها أي عمل بصري عربي على ما أذكر، فلم نشاهد من قبل كما في “أم هارون”، أن تظاهرة تندد بإعلان دولة إسرائيل يقودها إمام مسجد وقس كنيسة وحاخام يهودي معاً ضد احتلال فلسطين. كما لم يطرح في أي دراما أو فيلم روائي عربي أن الصهاينة اليهود هم الذين فجروا بيوت ومؤسسات اليهود في البلدان العربية لتحريضهم على الهجرة إلى فلسطين دعماً لدولة اسرائيل الناشئة، كما شاهدنا حين قام عيزرا وزوجته رفقة، ابنة الحاخام الأكبر مع آخرين بتفجير بيت اسحاق اليهودي المناهض لمشروع دولة إسرائيل وكيف أكد الحاخام الأكبر غاضباً على صهره عيزرا، أنه ولد هنا وعاش هنا وهذا البلد الوحيد الذي يريد العيش والموت فيه رفضاً لدعوة عيزرا للذهاب إلى إسرائيل. ثم رأينا كيف جاء رجل إنكليزي صهيوني ليساعد عيزرا في أي شيء يريده وكيف قام عيزرا بسرقة مدخرات عمه الحاخام الأكبر من المال والذهب لإرسالها إلى إسرائيل دعماً للدولة.
أم هارون سيدة خليجية يهودية أصلاً لكنها أسلمت وتزوجت من مسلم وعاشت في بلدها وساعدت الناس كطبيبة وأحبها الناس جميعاً وهي حافظة أسرارهم والقابلة القانونية الوحيدة والجاهزة في كل لحظة لتحل مشكلاتهم. والمسلسل مزدحم بالقصص العاطفية التي تربط ابنة الحاخام بشاب مسلم ومحاولتهما الهروب للزواج بعد رفض الأب تزويجها وحين يهربان تقبض عليهما الشرطة البريطانية، وترجعها إلى أهلها ويتم توقيف حبيبها محمد، وقصة المرأة المسيحية التي تحب مسلماً ولكنها تتزوج عمه بناء على موافقة القس أملاً بإدخال عائلة الزوج الى الدين المسيحي …
أين التطبيع في كل هذا؟ هل من الغريب أو الخطير على الأمة أن تكون امرأة يهودية طيبة وقارئة للقرآن ومحبة لأهل قريتها أو مدينتها أو بلدها وهي لا تذكر إسرائيل وتعارض الاتجاهات بين اليهود الداعمين احتلال فلسطين؟

هذا طبعا لن يجعلني أغفل أن القناة التي انتجت العمل فعلت ذلك مستظلة على ما يبدو بقرار سياسي خليجي بالانفتاح على اسرائيل من دون أن يترافق ذلك مع ضغوط موازية لتوفير حل عادل للقضية الفلسطينية وفي حين لا تزال جماعات وطوائف في منطقة الخليج نفسها خاضعة للتمييز ومنتقصة المواطنة. لكن هذه الحقيقة لن تسقط حاجتنا لمقاربة مسألة العرب اليهود كما مسألة باقي الطوائف والجماعات في ثقافتنا على نحو يختلف جذرياً عما اعتمدناه خلال العقود الماضية.

لقد ذكرتني أم هارون بالحاجة أم العبد “سارة كوهين” التي أحبت شاباً فلسطينياً في يافا عام 1947 وتزوجته رغماً عن أهلها وحين حدثت النكبة هُجّرت معه الى لبنان لاجئة وعاشت في مخيم تل الزعتر وماتت منذ سنوات في منطقة قصقص، وكذلك الحاجة أم محمد الفلسطينية اليهودية التي عاشت طوال حياتها في لبنان مع زوجها الفلسطيني المسلم أيضاً، على رغم وجود أقارب لها في إسرائيل، وهاتان السيدتان كانتا من شخصيات فيلمي عن الفلسطينيين اليهود.