دار الحي، دانة الدنيا، لؤلؤة الخليج العربي، وغيرها من ألقاب كثيرة، أطلقت وتطلق على دبي، تمنحنا شعوراً قوياً بأبعادها المكانية، وقوتها الحضارية، ليس على الخريطة وحسب، لكنها تعرّفنا إلى تأثير موقع دبي كنموذج جديد وصاعد وراسخ بين التجارب الناهضة.

نموذج لا يعرف سوى النجاح.. لا تقهره التحديات.. بحكمة قادته تمكن من تحويل كل التحديات إلى فرص حقيقية للتألق والإبداع والتميز محلياً وإقليمياً وعالمياً.

قبل كل شيء، فإن دبي مكوّن أساسي في دولة الإمارات العربية المتحدة، هذه الدولة النموذج التي أصبحت في خمسة عقود معجزة تنموية عالمية، استطاعت بحكمة مؤسسيها أن تتحول إلى إحدى أهم الدول الحديثة في العالم في مئات المؤشرات الدولية النخبوية.

..عندما نتحدث عن دبي، ربما يكون مدخلنا سرد قصة تلك النجاحات الاقتصادية الأقرب، ذلك هو المدخل المباشر، والأوضح، ولكن خلْف ذلك المدخل نعثر على حكايات لا نهاية لها، تتعلق بطموحات كل إنسان.. فهنا أبناء هذه الأرض الطيبة المعطاء الذين حققوا بجهدهم، وعرق جبينهم، وانفتاحهم، هذا الإنجاز العربي والإنساني المفخرة، وهنا أيضاً كل من جاء إلى دانة الدنيا، يحمل أحلامه في قلبه، وترتفع به تطلعاته إلى القمّة، يأمل بالتحليق عالياً.

دبي منحت الجميع الفرصة، فتحت لهم أبوابها، وعاملتهم برحابة صدر منقطعة النظير، لم تهبهم القدرة على الصعود المادي وحسب، بل علّمتهم الكثير من الدروس: العمل الجاد، تطوير الذات، اكتساب خبرات جديدة، إيماناً لا حدود له بالأمل، وبالمستقبل الأفضل، غياب كلمة مستحيل، التسامح مع المختلف دينياً وثقافياً وعرقياً، التعايش بين الجميع، المساواة في التعامل مع الكل في الحصول على فرصة حياة كريمة.

الحقيقة التي لا جدال فيها أنه لا نهاية لدروس دبي المستقاة من حكمة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله. فعندما يفتش كل إنسان منا عاش في دبي داخل نفسه، يجد ظلاً من هذه الحكمة، ويعثر من دون أن يدري على هذه الدروس، وقد تحولت إلى قيم منقوشة في ضميره، حتى تحولت ببطء إلى سمات تعبّر عن شخصيته، ولعل هذه إضافة دبي الإنسانية الأساسية التي قدمتها إلى العالم.

عندما نتحدث عن دبي، فنحن نتناول تجربة استطاعت تحويل النجاح إلى قيمة، وهنا الفارق. والنجاح وإن كان يتعلق بخطط ورؤى استراتيجية أدت إلى تحقيق أرقام مذهلة ومستويات متقدمة في مختلف أوجه الحياة على مدار أربعة عقود، فأن الأهم يتمثل في تلك الرغبة التي أصبحت عامة في النجاح، والسعي إليه بالسبل كافة. رغبة استطاعت دبي ترسيخها في عقول الجميع وقلوبهم، وصولاً إلى الأجيال الجديدة. من هنا، فإن شعلة دبي ستظل متوقدة، لا يمكن أن تخبو، أو تنطفئ.

وعندما نتحدث عن دبي، فلا بد أن يكون زادنا درس التاريخ، وقوانينه، ولا بد أن نقرأ زمن التأسيس، وتحدياته، ونتأمل تراكمات الحاضر، ونفكر بضع دقائق في ذلك المستقبل الذي تتحضّر له دبي الآن، لا بل هي بدأت الاستعداد له منذ سنوات، هنا نجد أنفسنا أمام لحظات تؤدي كل منها إلى الأخرى بسلاسة لم تشهد توقفاً أو انقطاعاً، حيث لا توجد فجوات أو انتكاسات مسّت صميم التجربة، ولم يعرف ذلك المسار الزمني الصحي أيّ نكوص، فالنجاح قيمة ترفض التراجع ولا تقبلْه، ولا تفكر فيه أصلاً.

لا مكان للرماد

تحوّل النجاح في دبي إلى قانون تاريخي لا يعترف بفكرة الدورات: نهوض ثم انحطاط، تقدم فتراجع، رحيل يعقبه انبعاث، ولن تكون دبي يوماً مثل طائر الفينيق، أو العنقاء، فالمدينة تأسست على قيمة صلبة، وقوية، تمثلت في البناء المتواصل، حيث لا مكان للرماد.

وعندما نتحدث عن دبي، يتطلع الجميع إلى الظاهر، إلى البنية التحتية المتطورة، وإلى الرفاهية، وإلى الانفتاح.. وهي كلها مفردات لنا أن نفتخر بها، ولكن الأهم أن ننظر داخل قلوبنا بعمق، لنجيب بصدق: ماذا تمثل دبي لكل منا؟

بين فترة وأخرى - هذه الفترة تتراوح بين خمس وعشر سنوات - يخرج علينا البعض بنظريات حول دبي، ويتنبأ تارة بأنها سقطت، وأخرى بأنها على وشك السقوط، إلا أن دبي تفاجئهم من جديد، وترتقي بنهضتها، ونجاحها يزداد تألقاً، ويعاد الحديث مجدداً ومجدداً بلا كلل أو ملل، كأن لا همّ لهؤلاء إلا دبي، وحالتها. وهو أمر قد يراه البعض طبيعياً لأن لا أحد يهتم إلا بالناجحين والمواجهين والمتقدمين.

وبحكم مهنتي الممتدة لأكثر من ثلاثة عقود في مجال الإعلام، عاصرت منذ البدايات دبي، وعشت تفاصيلها، وتحديداً شعابها الاقتصادية.. كبرتُ معها، ودوّنت، وكتبت عنها كل يوم، حيث عملي الإعلامي التخصصي في الشأن الاقتصادي، مذ كانت مؤسساتها الاقتصادية لا يتجاوز عددها أصابع اليدين، إلى يومنا هذا، حيث المؤسسات المتمرسة، والمدن المتخصصة، والشركات الكبرى المحلية والعالمية، وحيث المناطق الحرة، وطيرانها، ومطاراها الدوليان، ومركزها المالي، والتجاري، واللوجستي، والترفيهي، والسياحي، والتقني والابتكاري أيضاً .

الحرب الإيرانية وغزو الكويت

لنعد إلى البدايات مع نهاية الثمانينات، حيث الحرب العراقية - الإيرانية، والتوتر الذي عمّ المنطقة بأكملها في حينه، وكان البعض، بل كثيرون، يتحدثون عن نهاية دبي، لأن استثماراتها في ميناء جبل علي كانت بالمليارات آنذاك، كما أن تجارتها مع الجارة إيران واسعة في الغذاء والأساسيات عبر السفن الخشبية التي أصبحت، مع الميناء، تحت ثقل حرب الناقلات، مع ما يعنيه ذلك من أن دورها التجاري بات مهدداً، وخسائرها ضخمة، إلا أنها سرعان ما استعادت توازنها، وأقلمت نفسها، وعادت أقوى من السابق مع انتهاء الحرب.

لكن هذا النهوض لم يدم طويلاً، لأن منطقتنا ابتليت مجدداً بغزو صدام للكويت في أغسطس/‏‏ آب 1990، وبعدها الحرب الدولية لتحريرها في مطلع العام التالي. هنا، بين التاريخين، لا يغيب عن ذاكرتي مشهد الشيخ محمد بن راشد وهو يوجّه بإنشاء نادي خور دبي للجولف، والجميع يتساءلون: ماذا يفعل هذا الرجل؟ الكويت محتلة، والمنطقة تغلي، والحرب على الأبواب، وعشرات آلاف المقيمين غادروا دبي عبر سفاراتهم، وهو يتحدث عن إنشاء نادٍ ثانٍ للجولف.. كان هدفه آنذاك توجيه رسالة طمأنة للجميع، وتحويل الإمارة إلى واحة لملاعب الجولف في العالم أيضاً.

وبعد تحرير الكويت عادت دبي إلى النهوض مجدداً، بل أقوى بمراحل من ذي قبل، واستمر تركيزها على قطاعي الطيران والسياحة، إضافة إلى جذب الشركات الصناعية، واللوجستية إلى جبل علي، ومنطقتها الحرة.

تدفق زوار دول الاتحاد السوفييتي

في تلك الفترة، ومع عودة الهدوء إلى المنطقة، تدفق إلى دبي مئات آلاف السياح من دول ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي، تلك الدول التي استقلت، وبدأت انفتاحها.. كانت الطائرات لا تتوقف يومياً عن نقل هؤلاء الذين كان هدفهم قبل السياحة التجارة، (التجارة الفردية)، يشترون من أسواق دبي كل شيء يخطر على البال، ليبيعوه في بلدانهم التي كانت محرومة من السلع الأجنبية، فانتعشت أسواق دبي، وازدهرت تجارتها، ودبّ النشاط في فنادقها ومرافقها السياحية ومطارها.

بعد بضع سنوات وسّعت هذه الدول علاقاتها مع أسواق العالم المختلفة، ليجري الحديث مجدداً عن ضعف دبي، والرهان الخاسر مجدداً على سقوطها. لكن الإمارة لا تتوقف عن تجديد نفسها. انتصرت مجدداً، وفي مطلع الألفية الجديدة أصبحت أكثر رسوخاً وتنوعاً، وفاجأت الجميع بظهورها القوي، حيث فتحت أبوابها لاستقطاب الخبرات العربية والإسلامية المهاجرة من الغرب بعد حادثة برجي المركز التجاري العالمي في نيويورك، وانتشار ظاهرة «الإسلاموفوبيا».

الألفية الثانية

قدمت دبي برؤية محمد بن راشد إلى هؤلاء وعائلاتهم مقومات العمل والحياة الكريمة، وكانت أطلقت لتوّها مدن الأعمال المتخصصة في الإنترنت، والإعلام، والمال، والصحة، وغيرها، ومن ثم أتاحت عقاراتها للتملك الأجنبي، واستمرت في البنية الأساسية والطيران والسياحة، فكان لها ما أرادت، إذ تحولت في سنوات قليلة جداً من مركز إقليمي إلى مركز عالمي بانتعاش قلّ مثيله.

ويحضرني هنا سؤال كنت طرحته في مطلع الألفية الثانية على صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد: أمام هذا التوسع الضخم ماذا حققت دبي من أهدافها؟ فكان ردّه عليّ يومها: «أقلّ من عشرة في المئة»، لكنني أعدت على سموه السؤال ذاته بعد ثلاث سنوات: «كم وصلت نسبة ما حققته دبي بعد إنجاز عشرات المشاريع؟»، فجاء ردّه مفاجئاً: «أقل من 10 في المئة».. قلت لسموه: لكن ردّ سموك قبل ثلاث سنوات كان يحمل الجواب ذاته؟ فقال سموه: «لأن أهدافنا كبرت ورؤيتنا توسعت».. هذه هي دبي.

الأزمة المالية العالمية

بعد أطول فترة انتعاش متواصلة شهدتها دبي استمرت بشكل متصاعد لنحو ثماني سنوات، ضربت العالم أزمة المال، وأثر هذا الزلزال المالي في دبي، ومؤسساتها، كونها الأكثر انفتاحاً في المنطقة على الخارج، لتخرج الأصوات من هنا وهناك، تتحدث عن أفول نجم دبي الساطع، وأن الإمارة فقدت بريقها، ودخلت في سبات عميق.

وفي خضم تعالي الأصوات والتقارير الأجنبية السلبية، سألت صاحب السمو: لماذا يواصل سموه المشاريع، وتشييد المعالم الكبرى في الإمارة، ويبرم صفقات مليارية للطائرات، في وقت نحن فيه، والعالم، بأزمة، وفي وقت تتعالى فيه الأصوات أيضاً بأن حلم دبي قد انتهى؟.. فقال في إجابته لي عبارة تحولت إلى منهج عمل: «علينا في الأزمات أن نحوّل التحديات إلى فرص».. وأضاف سموه أيضاً: «علينا دائماً أن نكون مستعدين للمستقبل»، فالأزمات مهما طالت لا بد أن تنتهي، و«هنا تكون أنت المكان الأفضل بين المتفوقين لأنك تقدمت على غيرك بالتجهيز».

ولم تمض سنوات قليلة حتى عادت دبي إلى تألقها من جديد، وعاد من كان ينتقدها ليكون أول المستثمرين فيها، خوفاً من أن يفوته القطار، واستمرت في ذلك إلى يومنا هذا الذي يمر الآن بمرحلة انتشار جائحة صحية لم تشهد البشرية مثيلاً لها في عصرنا الحديث، جائحة ضربت العالم ومنطقتنا، وشلّت حركة المليارات من البشر، لتتعالى الأصوات المتشائمة والحاسدة، والسلبية، وتتحدث عن انتهاء نجومية دبي مرة أخرى، كأنهم لم يقرأوا التاريخ، أو يتعلموا من الدروس السابقة.

جائحة لا مثيل لها

جائحة «كوفيد- 19» حدث طارئ على العالم، وظرف استثنائي لم تضعه أسوأ السيناريوهات عند أصحاب القرار، ولا في مراكز الأبحاث. ولأنه استثنائي فإنه زائل، بضعة أسابيع، أو بضعة أشهر، ليعود بعدها العالم إلى نشاطه بشغف، وتعود دبي إلى نجوميتها بين مراكز النشاط الرئيسية في العالم.

الأضرار لن تكون قليلة عالمياً، وإقليمياً، ومحلياً، فتوقف العالم بضعة أشهر يعني تكبّد البلاد والعباد في العالم، خسائر تريليونية، لا يمكن تعويضها إلا بالعودة إلى النشاط، وستعود دبي أقوى مما كانت عليه، لأنها مدينة تعشق الحياة، وتعشق النجاح.. لأنها مدينة في دولة الإمارات العربية المتحدة، صاحبة المعجزة التاريخية.. فلا تستمعوا للأصوات النشاز، فهي تشوّش طريق النجاح.

دبي قيمة حقيقية أخلاقية، وجمالية، وحضارية، واقتصادية، حفرت بقوة داخل الجميع، والقيم خالدة لا تعرف المرض، ولا تموت. وتبقى دائماً نبراساً ينير دروب البشر ويقودهم نحو مستقبل أفضل وأجمل.

هذه هي دبي التي في خاطري.. هذا قدرها، وهذا هو قدر أي ناجح في الحياة، وفي المجتمع، وفي العمل، وفي البناء، وفي الإبداع.. هذا القدر ليس جديداً فهو موجود عبر التاريخ، وعلى مَرّ العصور.

* بين فترة وأخرى - هذه الفترة تتراوح بين خمس وعشر سنوات - يخرج علينا البعض بنظريات حول دبي، ويتنبأ تارة بأنها سقطت، وأخرى بأنها على وشك السقوط، إلا أن دبي تفاجئهم من جديد، وترتقي بنهضتها، ونجاحها يزداد تألقاً، ويعاد الحديث مجدداً ومجدداً بلا كلل أو ملل، كأن لا همّ لهؤلاء إلا دبي، وحالتها. وهو أمر قد يراه البعض طبيعياً لأن لا أحد يهتم إلا بالناجحين والمواجهين والمتقدمين.

* عندما نتحدث عن دبي، فلا بد أن يكون زادنا درس التاريخ، وقوانينه، ولا بد أن نقرأ زمن التأسيس، وتحدياته، ونتأمل تراكمات الحاضر، ونفكر بضع دقائق في ذلك المستقبل الذي تتحضّر له دبي الآن، لا بل هي بدأت الاستعداد له منذ سنوات، هنا نجد أنفسنا أمام لحظات تؤدي كل منها إلى الأخرى بسلاسة