في مثل هذه الايام الرثة غاب في باريس لبناني يدعى الياس سركيس: وحيداً، لا حزب ولا عائلة، ولا بطانة، ولا أزلام، ولا فساد، ولا خطايا، ولا صفقات، ولا تزلّم، ولا تزليم، ولا بطولات، ولا طانيوس شاهين.

غاب مثله في باريس ايضاً ماروني رئاسي آخر يدعى ريمون اده. ومن أجل ألاّ تبدو كنيسة مار جرجس خالية في جنازته من الموارنة، دب وليد جنبلاط الصوت على الدروز. هكذا غاب قبلهما فؤاد شهاب، معلم الأول، وخصم الثاني. القاسم بين الثلاثة، النزاهة شبه المطلقة. لكن المقارنات الدرامية كثيرة. الثلاثة رفضتهم غالبية الموارنة، لسبب عميق وعضوي في النزعة الانتحارية. ثلاثة رفضوا أن يأخذوا الموارنة الى الحرب، وحاولوا استعادتهم منها. وثلاثة رفضوا ان يحشوا الدولة بفاقدي الأهلية وخلاة الكفاءة. وثلاثة لم يعرف لهم في الخوّة اقرباء أو اصدقاء أو انسباء أو أي جنس من هذه الأجناس التي نخرت الدولة في حالات أخرى، ومرمرت الأهالي، واثارت نقمة الطوائف، ومهدّت للثورة على فكرة الرئاسة المارونية، وشراهة النظام، وغطرسة الاتباع وحديثي النعمة.

فؤاد شهاب رأى ان ردّ لبنان عن الهاوية لا يقتضي الدفاع عن “حقوق المسيحيين” بل عن حقوق المسلمين. وكان شعاره ان الكتاب المقدس هو الدستور. والياس سركيس أعطى تطبيق القانون، رمزية البقاء. كل شيء كان مقياسه القانون. وكل حكم فاسد فاسق إذا لم يكن ملهمه العدل.

لم يدخل الياس سركيس في السجل السياسي للموارنة. لا يذكره أحد. لا يتذكر أحد أنه ادار بقائيات الدولة وحفظ كرامة الجمهورية في احلك وأقسى وأشرس حالات الاحتلال والحرب والمجازر والقناصين: “أنا رجل بنى حياته على الصراحة والصدق، ولن أغير مسلكي بعدما أصبحت رئيساً للجمهورية”(1).

بالمقارنة الدقيقة تبدو رئاسة الياس سركيس أعمق حتى من رئاسة فؤاد شهاب. صحيح ان صفاءهما كان واحداً في الترفع عن الأنانيات المحتقرة، وفي التكرس للقيم الجمهورية، لكن شهاب كان معه الجيش وهيبة الدولة وتوافق الأقليم، في حين ان سركيس سبقته الى بعبدا الحرب الأهلية والحروب العربية واتفاق القاهرة وانقسام الدولة نفسها، بما فيها انقسام الجيش وانضمام بعض الضباط المغامرين، الى دمويات القذافي أخوان.

وجد الياس سركيس، الرئيس، في وجهه، أرييل شارون عند سرايا بعبدا، وحركة “فتح” تدير مطار بيروت الدولي، والجيش السوري في المتن، والولايات المتحدة ترسل مبعوثاً الى بيروت سفيرها السابق في فيتنام، الجنرال غودلي، والاتحاد السوفياتي يوفد ضابط المخابرات السابق، الكسندر سولداتوف. وجهنم مفتوحة.

يجب التوقف طويلاً عند العقل السياسي الذي كان يتخفى وراء تواضع الياس سركيس. وربما بسبب فارق الجيل والمرحلة، كان أوسع ثقافة من معلمه، ولكن بالتأكيد ليس أعمق معرفة، خصوصاً في معرفة الوضع الاجتماعي المعقد للبنان وترابطه مع الأنسجة التي تكوَّن منها مع السنين.

هذا الأفق هو ما ميّز شهاب وسركيس عن سائر السياسيين، وخصوصاً عن التيار الماروني السائد. وقد كان في أي حال تياراً صادقاً ونزيهاً، حملته مشاعره الوطنية الى أقصى حالات التضحية والشهادة.

حتى هذا الفريق من الصديقين ضمهم الموارنة الجدد الى ركن العزل والابعاد، ناهيك بالسخرية والازدراء والابتسامات الملتوية. ما بين عالم الياس سركيس وسبت السادس من حزيران، أدى الخواء السياسي المتصاعد، إلى انهيار كل الأصول الوطنية، بحيث ترك للغوغاء ان تتولى قمع حرية التعبير. ومرة أخرى تجاوز الجيش خفة الإدراك السياسي ليحول دون الشرارة الجاهزة على الاكواع: “حقوق المسيحيين”، تقابلها “شيعة شيعة”، ومن يرمي بين الإثنين الاهانة لأم المؤمنين، جميع لزوميات الحريق الكبير.

ولد الياس سركيس العام 1924. جيل المئوية. الجيل الذي كان وزير خارجيته فؤاد بطرس، ورئيس الوزراء سليم الحص. جيل ولد مع ولادة الدستور، والدستور كان مأخوذاً عن الثورة الفرنسية وحقوق الناس ومساواة البشر، مطعَّماً بحقائق لبنان ووقائعه ومشورة خلصائه. لم يولد في “الاستبداد، بل تحت شعار الحرية والمساواة. وفي ظله عاش شاب يدعى الياس سركيس في غرفة بلا كهرباء، ودرس الحقوق، وأصبح حاكماً للبنك المركزي ورئيساً للجمهورية.

أهم درس مدني في تاريخ هذه المدرسة أعطاه أقوى عسكري ومؤسس جيش البلاد، يوم تسلَّم الحكم، وسلمه في أرقى المثل الدستورية. مرة ثانية عزف فؤاد شهاب عن الرئاسة وهو أقوى المرشحين محلياً واقليمياً ودولياً. الجميع كانوا يريدونه، وهو كان يريد لبنان. بيانه في العزوف كان أهم من إعلان الاستقلال.

رفض الياس سركيس البقاء يوماً واحداً بعد نهاية الولاية. ورفض ريمون اده الرئاسة مكبِّلة. ويومها كان التسابق على كرسي الموارنة مضحكاً ومبكياً ومذلاً. طريق الشام وطريق واشنطن وتكويعة سرية على موسكو. كم اختلفت خريطة الطريق. الآن اصبحت الزيارات لموسكو عائلية وللتعارف والاستئناس.

ورطة الرئاسة، يا مولانا، ورطة. ترضي موسكو تزعل واشنطن. تقدم اوراق الاعتماد في دمشق، ترفض طهران النسخة: لا أقل من النسخة الأصلية. وقد سحبنا فرنسا من مفكرة المواعيد. هذه كان يعنيها الأمر عندما كان المرشح من فئة فؤاد شهاب أو شارل حلو، ووزير الاعلام جورج نقاس، وسفيرنا في باريس فيليب تقلا يقدم أوراقه الى شارل ديغول. أرأيت كم كان استبدادياً هذا النظام؟

في غمرة التجاهل الماروني للياس سركيس فاتهم الانتباه إلى أهم خصاله: لا. ليست البساطة والتواضع والتقشف والاستقامة، هذا الاستاذ المؤدب الهادىء الأنيق كان شجاعاً بلا حدود. ليس في انه عاش الولاية تحت القصف، بل في أنه تحت القصف لم يتنازل لحظة واحدة. ولم يفقد اتزانه. ولم يفقد فريضة الحياد بين اللبنانيين، وخصوصاً، خصوصاً، لم يفقد توازنه بين العرب. على رغم اقتناعه بمدى تأثير سوريا في لبنان(2)، أصر دوماً على العلاقة مع مصر والرياض. كان يأخذ في الاعتبار كل نقاط ضعف لبنان، لكنه لم يتذرع بها مرة واحدة من أجل التنازل عن شيء.

لا مطلب شخصياً لديه. لا في الداخل ولا في الخارج. دخل القصر الجمهوري وفي الصندوق السري ثلاثة ملايين دولار. وعندما خرج كان في الصندوق ثلاثة ملايين دولار. لم يمدّ يده الى أحد أو الى شيء. وكان رئيس هذا البلد المكسور يذهب الى القمم العربية عالي الجبين عالي الخاطر، كأنه يمثل اكثر الشعوب وحدة وأكثر الدول سلامة.

وظل بلا موارنة. بالأحرى، ظل بلا أحد. لم يكن يثق بضعف الجماهير وتقلباتها. هذا هو الدرس الأول عند فؤاد شهاب وريمون اده. لا يمكن ولا يجوز ان تطمئن الى شعب يردد في ثقافته الشعبية “اليد التي لا تقوى عليها قبّلها وادع عليها بالكسر”.

هو، ابن بسطاء الشبانية، قال لمبعوث الأسد محمد الخولي الذي جاء يطلب الموافقة على ضرب الفلسطينيين: “لا أستطيع ان أفاوضهم في النهار وأضربهم في الليل”. وقبل أسابيع كان الفلسطينيون دمروا بيروت لكي يمنعوا انتخابه.

مسكين لبنان. بلد ولد لكي يعيش في الندم. فؤاد شهاب وضع الى جانبه قاضيين رفضا تمرير معاملة خاطئة لقائد الجيش. وريمون اده المحامي توقف عن قبول الدعاوى يوم اصبح والده رئيساً للجمهورية. ثلاثة بلا ورثاء، في الخاص وفي العام.

(1) راجع، “السلام المفقود”، عهد الياس سركيس 1976 – 1982، كريم بقرادوني.

(2) المرجع نفسه.