لعل زلة اللسان الأهم والأخطر التي صدرت من قبل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، في سياق تعليقه على وجود قوات بلاده العسكرية في الأراضي الليبية، كانت حينما قال: «إن ليبيا تركية الهوى» وهو بذلك أعطى لنفسة الذريعة الوجدانية المبررة لوجوده السياسي والعسكري فيها، غير مبالٍ كيف يمكن «صرف» عبارة «الهوى» في المنظومة القانونية الدولية!

لذلك، على ما يبدو أننا أمام خرائط جديدة لبعض دول المنطقة، كما تمت قديماً ذات يوم على يدي بريطانيا وفرنسا، واليوم تتم على أيدي الأتراك والإيرانيين، مع عدم إغفال الدور الإسرائيلي أيضاً.

في بدايات القرن الميلادي الماضي، كانت مدينة عين تاب جزءاً أساسياً من الأراضي السورية، حتى غزتها تركيا بجيشها في العشرينات، وضمتها قسراً، وغيرت اسمها إلى «غازي عنتاب»، كما فعلت بعد ذلك في مدن ومناطق سورية أخرى، مثل لواء إسكندرون الذي حولت اسمه إلى «هاتاي»، ومدينتي مرعش ونصيبين على سبيل المثال لا الحصر. تنازلت فرنسا الانتدابية في سوريا عن هذه الأراضي لصالح تركيا كنوع من «الرشوة السياسية» كي لا تقف تركيا في صف ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية ضد فرنسا والحلفاء، وطبعاً هذا يفسر من تلقاء نفسه كيف أصبحت تركيا عضواً في الحلف الأطلسي بعد الحرب العالمية الثانية كمكافأة كبرى.

ولذلك كان تحذير الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مهماً ولافتاً، عندما قال إن «تجاوز خط سرت هو خط أحمر بالنسبة للأمن القومي المصري»، وكأن هناك خطاً جديداً يُرسم على الرمال بين شرق ليبيا وغربها المحتل، وتحت سيطرة القوات العسكرية التركية التي منحها فائز السراج «سبباً» للغزو.

إسرائيل استخدمت «حقها التوراتي» لتبرير استعمارها للأراضي الفلسطينية وتوسعها الاستيطاني فيها، وإيران أيضاً استخدمت «إرثها التاريخي» لاحتلال الأحواز العربية والجزر الإماراتية، والمطالبة بالبحرين بين تارة وأخرى. واليوم نرى مبرراً جديداً يضاف لهما وهو «الهوى التركي» لتؤسس عليه منظومة استعمارية جديدة على أراضي الدول العربية.

الجغرافيا هي أحد أخطر وأهم عناصر التمكين السياسي، فخط حدودي بسيط من الممكن أن يغير مسار شعوب ودول، ويؤثر بشكل جوهري على المستقبل. في كتابه اللافت والمهم «انتقام الجغرافيا»، اعتبر الكاتب الأميركي روبرت كابلان أن الجغرافيا وحدود الخرائط المرسومة هي أهم محفز للحروب والخلافات المسلحة بين الدول، وأن أي تعديل منتظر في حدود الدول هو نذير تغيير شامل وأوسع، ينتظر المحيط المتعلق بمكان الأزمة المعني. وما حصل في فلسطين ذات يوم، وفي يوغوسلافيا القديمة في الماضي القريب، وما يحدث أمامنا في العراق وسوريا، يعطينا فكرة وتصوراً عما ينتظرنا في ليبيا.

و«الهوى» التركي لا يعاني منه فقط المحيط العربي، ولكنه يؤرق أيضاً اليونان وقبرص ودول البلقان ودول آسيا الوسطى؛ بل حتى وصولاً إلى «تركستان الشرقية» المقاطعة المحسوبة اليوم كجزء من الصين، والتي لسكانها جذور إثنية تركية. هذه الرقعة الجغرافية «العريضة» تغري ويسيل لها لعاب قيادة حاكم تركيا لإعادة ذكريات الماضي العثماني.

في ظل غياب لمرجعية القانون الدولي، وعدم تطبيق أدواته بحزم وقوة وعدالة على الجميع، أصبح من الطبيعي أن يُسمح للاستعمار الإسرائيلي والإيراني والهوى التركي بأن يفرض أمره. الشيء اللافت أن هذه التجارب الثلاث جاءت بنتائج جانبية في غاية الأهمية، من أهمها إثبات «عنصرية» الدول الثلاث، وأن لها مشروعاً توسعياً عنصرياً في صميمه. وسقطت أكذوبة الديمقراطية في إسرائيل، والممانعة في إيران، ونصرة الدين في تركيا.

المشهد الليبي يذكرنا مجدداً بأهمية منظومة الأمن العربي، في ظل واقع أليم ومحزن، يقول لنا إن الجغرافيا في ليبيا هي بضاعة أتلفها «الهوى»!