محمد نورالدين

عندما تتحرك مصر يموج الوطن العربي، وعندما يتراجع دورها يتعرض الأمن القومي المصري والعربي للمخاطر الكثيرة.

لطالما كان الوطن العربي في مرمى التدخلات والأطماع الخارجية. وهو لم يعرف الاستقرار والاستقلال والسيادة الوطنية إلا بعد الحرب العالمية الثانية. فبعد الاحتلال التركي الذي استمر 400 سنة جاء الفرنسيون والإنجليز عنواناً للاستعمار الجديد بعد الحرب العالمية الأولى.

ومن مآسي القدر أن هاتين الدولتين الغازيتين لم تخرجا جزئياً من بعض المناطق العربية إلا بعد الحرب العالمية الثانية وبعدما أسستا الكيان الصهيوني عام 1948.

لم يهنأ بعض البلدان العربية بإعلان استقلالها لتدخل مرحلة جديدة من الصراعات ومواجهة الاعتداءات من قبل «إسرائيل» مدعومة بالمستعمرين التقليديين فرنسا وإنجلترا، لكن مضافاً لهما هذه المرة الولايات المتحدة الراعي الرسمي للإرهاب «الإسرائيلي».

مع ذلك، وبما أن أغلبية العرب لم يعرفوا بناء دولهم على أسس المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص وحرية التعبير والاختيار، فقد وقعوا في محظور التخلف المتعدد البعد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

فنشأت النزعات الدينية والمذهبية والإثنية والمناطقية والعائلية والقبلية حتى اتسعت الثقوب المؤاتية لهدم الهيكل على رؤوسنا جميعاًَ.

وفي هذه اللحظات لم تتوان قوى إقليمية عن استغلال الضعف والانقسام لتحقق ما كانت تتطلع إليه من أطماع. وإذا كان هدف زيادة النفوذ والتأثير من طبيعة الصراعات التاريخية وقوانينها على قاعدة ملء الفراغ، فإن البعض من هذه القوى الإقليمية تجاوز الخطوط الحمر بوقاحة، وسعى إلى توسيع نطاق هيمنته جغرافياً من طريق الاحتلال بالقوة العسكرية لمناطق من الدول العربية.

تركيا هي النموذج الفاقع على التوسع الجغرافي، كأن الأراضي العربية في سوريا والعراق وفي ليبيا بلا سكان وتحتاج إلى من يملأها اقتداء بالكذبة الصهيونية الرائجة من أن فلسطين كانت أرضاً بلا ناس، فيما اليهود المستقدمون من أربع رياح الأرض بلا أرض.

كانت تركيا تتذرع بأن أمنها القومي مهدد من جوارها الجغرافي المباشر في سوريا والعراق. فكان احتلالها لمناطق واسعة في سوريا وأجزاء من العراق الذي يتحول شماله إلى جزر تركية عبر القواعد العسكرية التي يواصل الجيش التركي إقامتها وآخرها قاعدتين عسكريتين في منطقة هفتانين.

إن شعار محاربة الإرهاب لا يمكن أن يكون عبر الاحتلال ولا عبر تغيير البنى الاجتماعية وفرض سلوكيات اقتصادية في المناطق المحتلة؛ إذ إن مثل هذه الإجراءات تعكس التمهيد لإلحاق هذه المناطق ب«الوطن الأم» تركيا على أساس أن هذه المناطق لا أم لها ولا أب.

وتكرر تركيا مغامراتها الاحتلالية في ليبيا تحت غطاء اتفاقات مع حكومة ناقصة الشرعية؛ بل فاقدتها وبدعم من القوى الإسلامية المؤيدة لتركيا في تونس. ويهدد المسؤولون في أنقرة الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر والبرلمان برئاسة عقيلة صالح، كما لو أن هؤلاء غزاة وأجانب، في حين أن القوات التركية ومرتزقتها الرديفة المستقدمة من إدلب هم أصحاب الأرض. وتتصرف تركيا بذلك في ليبيا كما تصرفت في سوريا والعراق وكما تصرف اليهود في فلسطين على قاعدة أن الجغرافيا فارغة وجاء من يملؤها.

ليست المرة الأولى التي ترفع مصر صوتها منددة بالغزو التركي لليبيا. لكن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يخرج للمرة الأولى، منذراً ومهدداً الجيش التركي من أن سرت والجفرا خطاً أحمر، داعياً القوات المسلحة إلى الاستعداد للقيام بمهمات خارج حدود مصر عند الضرورة.

خروج السيسي هذا، قوبل في معظم أنحاء الوطن العربي بترحاب ليس لأنه يمكن أن يضع حداً للتدخل التركي (بل إخراجه نهائياً من ليبيا)، فهذا يتطلب تضافر كل الجهود العربية ومطلوب في الأساس منذ وقت طويل. لكن خروج السيسي كان يعيد الأمل بإمكانية أن تعود مصر للقيام بدورها الريادي العربي. وعندما تتحرك مصر يموج الوطن العربي، وعندما يتراجع دورها يتعرض الأمن القومي المصري والعربي للمخاطر الكثيرة.

لا أحد يدعو لاستنزاف قدرات مصر، المنهكة اقتصادياً، في المستنقع الليبي. لكن الاندفاعة التركية في ليبيا تكاد تصل، وهذا هدفها، إلى الحدود الغربية لمصر. وقد كانت لتركيا محاولة بالغة الخطورة في أن يكون النظام في مصر تابعاً لها عندما انتخب محمد مرسي رئيساً وكان ما كان. وقد أنقذت مصر نفسها وأنقذت معها العرب بإطاحة مرسي قبل استفحال أمره. لكن أنقرة حزب العدالة والتنمية لم تستكن وانتظرت الفرصة مرة أخرى للانقضاض على مصر ومن معها، وهذه المرة من البوابة الليبية. خطير جداً أن تحتل تركيا ليبيا وتنهب ثرواتها، لكن الأخطر، كما أسلفنا، أن هذا ليس سوى ممر لضرب الأمن القومي العربي في قلبه، في مصر. فهل تستطيع مصر أن تكسر أغلال ما بعد كمب ديفيد وتعود، وهذه أمنية كل عربي حر، إلى ريادة الوطن العربي؟