كل ما يُقال عن الوضع اللبناني في هذه الأيّام البشعة هو في محلّه. لم يسبق لهذا اللبنان أن ذاق مثل هذه المخاطر والانهيارات، حتّى في زمن حروب بوسطة عين الرمّانة. لقد بلغ وطن الثماني عشرة طائفة أخطر ما مرَّ في زمانه وأزماته.

انهيارات في كل الحقول، وعلى كل الصعد، وخصوصاً الزلزال الإفلاسي الجامح والشامل، والذي رافقه ابتعاد الأشقّاء والأصدقاء من قريب وبعيد، وللمرّة الأولى بهذه السبل والطرق. كما لو أنّ في الأمر اتفاقاً حتّى بين الخصوم الذين كان لبنان دائماً وأبداً موضوع اهتمامهم الدائم، فصار موضوع إهمالهم بالكامل، ومن دون مراجعة أو سؤال.

شئنا أم أبينا، وشاء المسؤولون والمعنيّون أم أبوا، فإن هذا اللبنان اليتيم حقّاً قد بلغ أخطر المراحل المصيريّة، وعن سابق تصوُّر وتصميم، وعلى المكشوف، وبأسلوب مَنْ يشاء أن يُقدِّم ذاته في “صيغة الحاكم الفعلي”. وما من داعٍ إلى التسمية والأفعال، فيكفي نموذج الحكومة والأساليب التي تعتمدها في تصرّفاتها، وقراراتها، ومالا يحتاج اللبنانيّون إلى إعلان استغرابهم له.

ولكن ليست الغرابة في أفعال الحكومة وحدها، فكل ما يحصل في هذه المراحل والأيّام يُصنَّف في خانة الاستغراب والدهشة. يكفي، كمثل مدوٍّ، منع السفيرة الأميركية في لبنان دوروتي شيا من الإدلاء برأي أو تصريح، وبهذا الأسلوب الذي لم يمر مثله على لبنان ولا في أي زمن سوى الزمن السيّئ الذي هو فيه الآن، ويكون الوطن الصغير قد تغيَّر بكل ما ومن فيه.

لم تعد الأسئلة العاديّة تدور حول موقف هذا المسؤول، أو ذاك الحزب، أو ذيّاك المرجع، بل أن قلق الناس مصدره هذه اللامبالاة الإجماعيّة، وهذا الإصرار على تخريب لبنان حتّى تدميره كما تقول التصرُّفات الغريبة العجيبة، وبمختلف الوسائل والطرق والأساليب. وقصّة السفيرة تحمل رسائل أخرى.

فأين ذاك اللبنان من هذا اللبنان، وأين أولئك القادة والمراجع والمسؤولون؟ إن هذه المرحلة التي يتخبَّط فيها لبنان المعثَّر يمكن اعتبارها من أسوأ ما مرَّ بتاريخه، وأبشع ما اعتراه من أزمات، وخضّات، بلغت حدود التسيُّب، والإفلاس، والانهيار، ومن دون أي قرارات واستدراكات ومعالجات إنقاذيّة. سائبة والرب راعيها. والدولة دول، والدويلة تمضي قدماً.

والأهم هنا، في هذا الموقع، عدم تحرّك المسؤولين في اتجاه الأشقّاء الكبار الذين كانوا يغمرون لبنان بكل جوارحهم يوم يُصاب بحادث أو شوكة. والحال ذاته بالنسبة إلى أصدقاء لبنان في الشرق والغرب، وكل أرجاء الأرض.

في الزمن الجميل، زمن لبنان المزدهر، المُنفتح على العالم بأسره، كان الأشقّاء والأصدقاء والأحبّاء يهبّون هبّة واحدة إذا ما أصيب الوطن الرسالة بشوكة. ها هو اليوم كأنَّه غير موجود، وكأنّ مصائب الأرض لم تصب في ضيافته. فما من مسؤول يتحرَّك، وما من مرجع يُطلق صوت الإنقاذ، وما من أشقّاء ولا أصدقاء، مثل الهوا راحوا…

أما من مسؤولين، أما من نوّابٍ، أما من مُتزعّمين، أما من صوت يلعلع في ساحات بيروت المهجورة؟ أين كنا، أين أصبحنا وكيف؟ أين لبنان وبيروته؟

لا تندهي ما في حدا.