كنت أظن أن هناك أغاني، رغم صمودها في وجه الزمن، تموت هي الأخرى كلما كثر تداولها بين الناس، لكن الشاب محمد الخاطر، قال لنا: هذا ليس صحيحاً، فيمكن لغناء طائر واحد أن ينعش ركام الموسيقى، يحررها من استعمالها القديم ويضفي عليها قيمة استعمالية جديدة.

في يوم حزين كما هي هذه الأيام، تابع العراقيون فيديوهات لمحلل تقني وممرض عراقي، يرتدي عدة الوقاية من كورونا، ثم يقترب من مريض شاب ويغني له بصوت سماوي مفعم بالحنين «سلامات.. سلامات» سالت دموع المريض، وهو يبتسم من التأثر، وتسابقت معه دموع ملايين العراقيين الذين شاهدوا هذا الفيديو، ولكنها كانت دموع حنين.. تُرى كيف عادت هذه الأغنية من النسيان لتواجه فيروساً حديثاً وعالمياً بهذا السحر؟

يظهر صديقنا مرة أخرى، يتقدم من سيدة مسنّة ويغني لها: «يا أمي يا أم الوفا» ومرة أخرى تنبعث هذه الأغنية من جديد لتدر دموع الأم المصابة، تبكي أمها الراحلة وأولادها الذين تخاف أن ترحل عنهم أيضاً، لكنها لا تستثني من أولادها هذا المُمرِّض الذي استطاع بحنوه أن يسكن قلبها كما لو أنه ابنها الوحيد.

محمد الخاطر كسر القاعدة، التي تطلب الهدوء في المراكز الصحية حفاظاً على راحة المرضى، وخالف التعليمات كممرض في الجهاز الطبي، ولكنه كإنسان، عرف أن هدوء الردهات الباردة يخيف مرضاه، وأن الضجيج الإيجابي الذي يبعثه صوته الصادح بالأغاني يهدئ أعصابهم المشدودة بالخوف من القادم.

في لحظات غربتهم، وفي عزلتهم المخيفة، يحمل إليهم هذا الشاب المقنع مثل سوبرمان معنى الشفاء، عندما يتشكل بهيئة دفقة فنية من الزمن الجميل، ينقذهم من هذه الرتابة التي لا تطاق وينقذنا معهم من فكرة الرحمة الغائبة.

محمد ليس مطرباً، هو ملاك الرحمة الحارس، صدى صوته في الممرات هو أشعة الحب الحارقة للفيروسات وهو شحنة العلاج الضرورية لمقاومة الخطر.. هو البهجة التي تنتصر على الفيروسات المجهرية، وتذكرها أن الإنسان لا ينتصر في المختبرات فقط، إنه ينتصر عندما يتحول في لحظة واحدة إلى أولاد وأحفاد يصطفون في مخيلة الأم المريضة، وهم يرددون من خلال صوته: وجه يمطر محنة.. قمر ونجوم جنة.