في الكتابة، كما في بقية الفنون الأخرى، تساؤلات كثيرة لا تفضي دوماً إلى أجوبة مقنعة، وسحر خاص لا ندرك مصدره بدقة إلا مع الزمن، ومع ذلك نستمر في الكتابة حتى لو لم يسمعنا الآخرون، لأن يقيناً ما فينا بعمق، يرفض أن يستسلم للسهولة.

هل نكتب لأننا نريد أن نعبِّر عما فينا من حرائق، وأن نوصل صوتاً نشعر بأن هناك في مكان ما، من يهمه أمره؟ أم نكتب لأننا نريد أن نخرج من ظلمة الجماعة لنتفرد، ونصبح شخصية خارج دائرة العام؟ وهل نكتب لأننا نملك طاقة لا نريدها أن تضيع، وندرك بالقلب والحواس العميقة أن لها مستقراً في زاوية ما قد تكون اللغة مثلاً، ونتقاسمها بالقصد أو بالصدفة، مع من يريد ذلك؟ ربما نكتب أيضاً لأننا بكل بساطة لا نعرف القيام بشيء آخر لنكون؟ أن نكون أو نتلاشى في الآخرين.

أسئلة تظل معلقة إلى أن نصل إلى إهمالها مع الوقت، أو تخزينها، وتصبح الكتابة في النهاية هي عنواننا الأوحد، وندخل فجأة في أسئلة غيرها أشد كثافة وعنفاً أحياناً، مثلاً، كيف نصل إلى أعالي قمم الأولمب لنسرق النار المقدسة؟ وما الذي يميز كاتباً عن آخر؟ وما هي الآلية التي تجعل هذا يصل بسرعة البرق بموهبة متوسطة، وآخر لا يصل أبداً، أو يصل ببطء؟ وهل هي الكتابة نفسها وآلياتها وموضوعاتها.. سلطان الإبداع وقانونه؟ كثرة الاعترافات الدولية والجوائز التي تنام على الحيطان، أو في الخزانات التي احتوت كل جهده على مدار عمر بكامله؟ أم شيء آخر يكاد يكون زئبقي الحركة، لا يمكن تأطيره بسهولة؟ مثلما للعالم هويته التي ترفعه إلى أعلى المقامات، وهي اكتشافاته واختراعاته ومنجزه العلمي، هوية الكاتب هي وطنه.

وطن بسعة الحلم، كلما وُضِعت له حدود وأسوار، وأسلاك شائكة، هدمها، وقطَّعها، وعبرها، حاملاً في جسده العام وذاكرته بجراحاتها الكثيرة.

وطن الكتابة، ليس هو الوطن المشترك الذي يتقاسمه مع الجميع، لأن به تربة الأجداد ورفاتهم وحكاياتهم القديمة التي لا تزال تسري في الذاكرة الجمعية.. هذا الوطن ملكية عامة ليس لأحد حق احتكارها وحرمان الآخرين منها، مهما كان مقامه أو رتبته، التربة للميت والحي.

الأمر يتعلق بوطن لا يمكن أن نعثر عليه إلا عند واحد وحيد، من يشكله ويمنحه الحياة والاستمرارية حتى حينما يدق ناقوس الموت على أبوابه، طبعاً للوطن العام مكانة حية ومهمة في وجدان الكاتب، لكن مع الزمن والخبرة يغتني الوطن المادي، بوطن آخر، هو وطن الكتابة، الوطن الأوسع والأكثر شمولاً.

لا جدال في أن الكاتب في النهاية هو ابن هذه الأرض بمآسيها وإنسانيتها أيضاً، فهو من يقوم بتشكيلها إبداعيّاً وفنيّاً داخل مساحة الوطن اللغوي، ويختزل مسافاتها، كل كاتب في عصرنا لم يعد ملكية ضيقة لتربة أو لحدود أو لجاذبية عرقية أو إثنية ضيقة، فهو صياغة كونية.