الرعب يسود الطبقة السياسية في العراق، بعد الإجراءات الأخيرة، التي اتخذها رئيس الوزراء في البلاد مصطفى الكاظمي باعتقال عدد من المسؤولين الفاسدين، لكن الشعور الغالب، الذي يسود بلاد الرافدين هو أن هذه الاعتقالات صورية، ولو لم تكن كذلك لبدأت بالرؤوس الكبيرة للفساد، لأن أيّ خطوة باتجاه معالجة دولة الفساد، باعتقاد العراقيين، لا بدّ أن تبدأ بسلطان الفساد نوري المالكي وبرؤساء الوزراء الستة، الذين تعاقبوا على حكم البلاد، بعد سنة الاحتلال 2003.
إن التجارب المريرة، التي مرّ بها العراقيون، طوال سنوات حكم المحاصصة والفساد والغش والاحتيال، علّمتهم كيف يرفضون تمييع مطالبهم، أو تخديرهم بقرارات وإجراءات سطحية لا تشفي الغليل، كما يقول أستاذ الإعلام وتكنولوجيا الاتصال الدكتور عبدالرزاق الدليمي.
والواقع، أن الفساد لن ينتهي بمعجزة ولن يعالج بالنيات الطيبة، فهو، في بلاد ما بين النهرين، شبيه بأخطبوط متعدد الرؤوس والأطراف من قمة الهرم إلى “الموظفين الصغار”، فضلا عن تعدد أشكاله وتنوع أساليبه، والعراقيون كلهم يدركون من الذي أسس للفساد ونظّر له وابتكر ألاعيب سلب ثروات البلاد وتجريدها من مدخراتها، فيما يستمر قرع الطبول الحكومية أن رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي قد أعدّ خطة شاملة للقضاء على لصوص الدولة وكبار الحرامية.
لكن العراقيين سمعوا ويسمعون، كل يوم، جعجعة ولا يرون طحنا، ويرددون في مجالسهم، الخاصة والعامة، أن الكاظمي لو كان جادا وصادقا لسمّى حيتان الفساد بأسمائهم ولعرض خطته الإصلاحية المزعومة على الشعب، لكنه لم يفعل ولن يفعل، بعد أن ثبت أنه جزء من طبخة الفساد، فقد دأب على التواصل شبه المستمر مع كتلة الخونة من الجواسيس والفاسدين وخصص الكثير من الزمن الحكومي لطمأنة الفاسدين، في لقاءاته مع الأحزاب الفاسدة ومع ميليشياتها الإرهابية.
أما الاعتقالات المزعومة، سواء كانت بأمر من واشنطن أم بقرار ذاتي من الكاظمي، فيعتبرها طيف واسع من العراقيين، سيّان، فهي قد تكون إيماءة مضللة موجهة إلى الفاسدين لحمل ما خفّ وزنه وغلا ثمنه.
هناك رأي لصحافي عراقي كبير هو محسن حسين، ورد خلال حديثي المطول معه، قد لا يرضى عنه الكثيرون، لكنه يبقى رأيا لصحافي مخضرم، فهو يقول إن “أميركا تدعم رئيس الحكومة الحالية مصطفى الكاظمي وإن ما يقوم به من إجراءات ضد الفساد والفاسدين يحظى بالتأييد الأميركي، وهي إجراءات تتماشى، إلى حد ما، مع المطالب الشعبية في التظاهرات، التي عمّت العراق، لكن المشكلة أنها إجراءات تناولت الصف الثالث والثاني من الفاسدين”.
من المستحيل أن يجرؤ أي حاكم في العراق، الآن أو مستقبلا، والكلام ما زال لمحسن حسين، “على تجاوز الخطوط، التي وضعها الأميركيون، في بداية الاحتلال، والمتعلقة بأسس نظام المحاصصة بين الطوائف والقوميات، لأن ذلك يتطلب انقلابا عسكريا قد يحظى ببعض التأييد الشعبي لكنه لن يكون أحسن حالا من الانقلابات والثورات، التي حدثت في العراق، منذ تأسيسه كدولة في أوائل القرن العشرين، ومع ذلك فإن الإجراءات ضد الفاسدين من الدرجة الثانية والثالثة إجراءات جيدة فهي، في الأقل، ترعب كبار الفاسدين وتخيف الصغار”.
تبقى أخطر الآراء في إجراءات الكاظمي باستهداف الفاسدين هو الرأي القائل إن هذه الإجراءات تهدف إلى قمع الثورة الشبابية الواسعة في العراق، والتي سيبلغ عمرها عاما كاملا، بعد أيام، ومفاد هذا الرأي أن الولايات المتحدة تتظاهر، في العلن، بدعم المطالب الشعبية للمتظاهرين ولكنها، في الوقت نفسه، تعمل على إنهاء هذه الاحتجاجات باستخدام شعارات المتظاهرين نفسها: انتخابات مبكرة، مكافحة الفساد والفاسدين، إعادة هيبة الدولة وسيادتها، المنافذ الحدودية قتلة المتظاهرين، ومواجهة النفوذ الإيراني..
وظيفة الكاظمي هي استيعاب الشباب عن طريق ترويج الشعارات المذكورة لكسب الشارع وسحب البساط من تحت أقدام المتظاهرين تساعده في ذلك ماكينة إعلامية مخابراتية ضخمة تطبل له، ومؤسسة علاقات أميركية تضع له برامج وخططا لنشاطات هدفها خداع الناس البسطاء، والتظاهر بالعمل على تنفيذ أهداف المحتجين كالدعوة للانتخابات، وزيارات عائلات الشهداء وترتيب لقاء لعدد من الشباب اختارتهم المخابرات في تجمع في الشارع ليعدهم بالتعيين وزياراته إلى المنافذ الحدودية.
وهذه كلها خطط مرسومة لتغيير مزاج الناس البسطاء، تدريجا وبنحو مدروس، وهؤلاء البسطاء ربما لن يشجعوا أولادهم على الاستمرار بالتظاهرات بذريعة: دع الرجل يعمل، ولنعطه فرصة.
هذا الرأي عبّر عنه السفير السابق الدكتور عدنان مالك، الذي قال لي: إذا كان الفساد أسوأ جرائم نظام المحاصصة الطائفية الفاشل، فإن خيانة الوطن أسوأ منها، والكاظمي كان من بين الزمرة الخائنة، التي وقعت على وثيقة احتلال العراق، وكان قد تربى على أيدي المخابرات الأميركية، خلال حقبة رعايتها لما يسمى بالمعارضة العراقية، وكان، بوصفه صحافيا، قد تعاون مع كنعان مكية في تأسيس مؤسسة ذاكرة العراق، التي نقلت، بعد الاحتلال، الإرث التاريخي للعراق إلى الولايات المتحدة ومنها إلى إسرائيل.
إن خلاصة الرأي، الذي تقدم، هو أن خطوات الكاظمي هي تطبيق لخطط أميركية إيرانية لإنهاء الاحتجاجات وإبقاء نظام المحاصصة الطائفية وما يسمى بالعملية السياسية على ما هو عليه وإكمال مخطط تدمير العراق خدمة للمشروع الصهيوني.
من وجهة نظر اقتصادية، فإن ملاحقة الفاسدين الكبار وحجز أموالهم المنقولة وغير المنقولة وإعادة المليارات، التي يمتلكونها في الخارج سيعزز الوضع المالي للعراق، بنحو كبير، فالفاسدون نهبوا أكثر من 799 مليار دولار، وإذا تمكن الكاظمي من إعادة نصف المبلغ المنهوب سيكون الوضع المالي للعراق بخير، كما يرى أستاذ الاقتصاد محمد طاقة، الذي عدّ كل ما يجري من اعتقالات لصغار الفاسدين لعبة جديدة من ألاعيب الشياطين في واشنطن وطهران.
إجراءات الكاظمي كلها تبدو لغالبية العراقيين مجرد مسرحية فهو أدى ما عليه ورمى الكرة في ملعب القضاء. وهو يعلم ذلك، علم اليقين، بسبب واقع القضاء الفاسد، الذي ما زال تحت تأثير الأحزاب الفاسدة وميليشياتها.
ستبقى هذه الإجراءات محاولة من الكاظمي لكسب عطف ثوار تشرين وتخفيف الغليان الشعبي في الشارع العراقي، ونحن على أبواب الذكرى السنوية الأولى لثورة تشرين، كما أفادني الدكتور ريمون جورج، سكرتير الجمعية العراقية الأميركية.
إن المطلوب من حكومة الكاظمي “الانتقالية” أكبر بكثير من قدرتها على تحقيقه، فتشكيلها على أسس المحاصصات، سيحدّ كثيرا من قدرتها على الحركة، بغض النظر عن الاتفاق على شخص رئيسها، وعن التسوية الاضطرارية بين طهران وواشنطن، ولكنّ تأليف الحكومة وعودة التظاهرات، على الرغم من كورونا والتصعيد الأميركي الإيراني، دليل على قوّة إرادة المتظاهرين العراقيين وإصرارهم على اقتلاع جذور الفساد من بلدهم.
وإجمالا، فإن ما يروّج له إعلام السلطة من احتجاز بعض الفاسدين يبقى لدى شباب انتفاضة تشرين مجرد كلام في مطلق الهواء، إن لم يكن هراء، فالشباب الثائرون، وهم يطلون قريبا على ذكرى السنة الأولى من انتفاضتهم الوحيدة يرددون، اليوم، أن قوس الصبر ما عاد فيه من منزع، وغدا سيسمع الظالمون صوت الثورة وهي تدق الأجراس.
إن الحل والعقد في القضية العراقية غدا بيد الشباب الثائر، الذي دفع دمه وقدم مواكب من الشهداء من أجل أن تكون له اليد العليا والقول الفصل في مستقبل العراق، فهو وحده المعنيّ بهذا المستقبل.
التعليقات