في الآونة الأخيرة بدأنا نشاهد ظاهرة جديدة تستدعي الانتباه، في بعض الدوائر والمؤسسات، تجد أحدهم يمشي مستعجلا بين أروقة الإدارة، وجسمه مليء بالأجهزة والسماعات وهي تتدلى من كل جانب ومفرع (ليس لابسا غترة) يمسك اللاب توب بيد، وكوب القهوة أو الشاي (الموغ) في اليد الأخرى، ويأتي للاجتماع في آخر لحظة، من باب كنت مشغولا، ولما يتعرفون عليه بالاجتماع يقولون: هذا مستشارنا وأحد الكفاءات المستقطبة، ويبدأ المستشار بعرض باور بوينت، ويكون تصميم شرائح البور بوينت (خذلك ولد)، فالعرض مليء بالتوهج والحركات (الزبرقه) بغض النظر عن المحتوى، وطبعا يرخي «حنكه شوي» عندما يتكلم لأجل «الأكسنت (اللهجة) يطلع أمريكي شوي مع إنه من ربعنا في الأصل» ! وأيضا لا يمنع استخدام كم مصطلح أجنبي.

ولما ينتهي العرض وتبدأ الأسئلة ويبدأ النقاش، وتبدأ فلترة ونخل المعلومات، (يطلع خوينا وخطط إدارته ما عندك أحد! ، بس أهم شيء أن تصميم البوربوينت كان كويس وخوينا عنده شوية أكسنت!).

تصور معي هذا السيناريو، لو هذا المستشار راح يتفاوض ويناقش بعضا من المصرفيين والمحامين في وول ستريت بنيويورك أو حي المال في لندن، هناك سيأكلونه لحما ولا أعتقد سيبقى منه عظم، مخضرمو المال والأعمال في نيويورك ولندن، قبل أن تدخل الاجتماع يكونون واضعين في تصورهم للخطوة بعد السابعة، وأنت تفتح فمك بالمقدمة، النقاشات هناك حرب مهارات وقصف على مستوى عال، وهذا المستشار مجرد هاوٍ، كأنك تلعب شطرنج واللاعبون يفكرون بسيناريوهات ختام المباراة، ويعرفون أغلب تكتيكات اللعب، وأنت تفكر بنقلة حجر الشطرنج الأولى لك!، وإستراتيجيات المفاوضات يحفظونها أكثر من أسماء أصدقائهم. يا عزيزي المستشار المستقطب إن (ترخية الحنك) والأكسنت والبدلة ما تنفع في هذه المفاوضات، كأنك آت بلباس منتخب البرازيل لكنك تلعب ضد فريق البرازيل الأصلي في ملعبهم !. صراحة أشفق على بعض المستشارين المستقطبين الشباب، عظمه طري وجاء من أمريكا ومتخرج حديثا، واشتغل مستشار مستقطب في إحدى الجهات، ويطلب منه حل مشاكل مزمنة !

ما زلت أذكر اثنين من الأصدقاء رجلا أعمال، وكل واحد لديه خبرة لا تقل عن عشرين سنة في الأعمال بالخليج، وأيضا من خريجي أمريكا قبل عقود، وكان لديهما موعد مع أحد مخضرمي الأعمال في أمريكا، فأشرت عليهما أن يتحضرا جيدا للقاء، لأن هؤلاء المصرفيين والمحامين عادة ما يكونون لطيفين عندما تريد أن تستثمر عندهم ولكن يتحولون إلى شرسين إذا كان الموضوع شراكة أو استثمار مشترك، فقالوا: لا تشيل هم حنا في السوق منذ سنين طويلة ونعرف نتعامل مع كل الناس، فقلت ترى التعامل في الخليج يختلف عن مصرفيي ومحاميي أمريكا، ولم أحضر الاجتماع لارتباطي بأمور أخرى، وبعد الاجتماع بيوم تحدثت مع الأصدقاء ماذا حدث؟ يقول صديقي عن الاجتماع: «أحس وجهي متورم من كثرة الأسئلة والضرب من كل جهة، يقول أحسسنا أنفسنا كأننا كيس ملاكمة وهم يتدربون عليه !). إذا هذا حال مخضرمين من رجال الأعمال لدينا، فما بالك بهؤلاء الشباب الجدد حديثي التخرج الذين تطلق عليهم بعض الجهات مستشارين أو خبراء ونريد منهم منافسة العالم !

إن الوطن يريد إنجازات وليس باوربوينتات. لنكن صريحين، ربما عشنا في كثير من بلدان العالم وتعاملنا مع كثيرين، وتعلمنا الإدارة والإستراتيجية والمفاوضات من أفضل أساتذة الإدارة والسياسة في عدة جامعات حول العالم، لكن الحق يقال، لا يوجد مثل احترافية رجال وول ستريت نيويورك، ولا خبث ودهاء حي المال في لندن، وجهة ثالثة (لا أريد ذكرها)، كل اجتماع تشاهد مدرسة مختلفة، وكل ما قابلت شخصا بمرتبة أعلى تجد خبرة وتكتيكات رائعة.

يذكروني بعض هؤلاء الشباب المستقطبين لدينا في بعض الدوائر الحكومية، بالشركات الاستشارية التي كتبنا عنها الكثير، تعاملنا مع كثير من أكبر الشركات الاستشارية في العالم ولسنوات، لا أذكر أحدهم أتى بفكرة خلاقة أو جديدة، إذا أردت أن تقول له هذا طير، فإن دراسة الجدوى تقول هذا طير لكن بطريقة جميلة، وإذا أردت أن تقول لا، بل هذا فيل سيجعله لك (فيل) لكن بطريقة جميلة أيضا، وباوربوينت مشع (ومزبرق)، الشركات الاستشارية تستخدمه كدرع حماية أمام رؤسائك إذا حصلت مشكلة في المشروع، وأيضا البنوك تستخدمه كدرع أمام مجلس الإدارة إذا تعثرت القروض وكله مستفيد!

نكتب كثيرا عن تشجيع الجيل الجديد والشباب وثقتي فيهم عالية جدا، ونعتقد أنهم بناة المستقبل، وما زلت أؤكد ذلك، وأيضا من أكثر المتحمسين للرؤية وإنجاحها، لذلك أرجو، بما أنه لدينا 10 سنوات تقريبا حتى 2030 أن تستقطب العقليات العالمية لتدريب هؤلاء الشباب، وعدم الاستعجال عليهم قبل نضجهم هل يعقل أن شابا خريجا حديثا يصير خبيرا! وأيضا نأمل التركيز على الكفاءات المميزة، ليس كل من تخرج من أمريكا أو أوروبا صار خبيرا ومستشارا، فهناك في أمريكا قمة جامعات العالم هارفارد وستانفورد ويال وأيضا هناك جامعات أبو ريالين (مش الحال).

يؤسفني في بعض الأحيان أن أسأل بعض هؤلاء المستشارين المستقطبين غير الناضجين، من أين تخرجت فيرد من أمريكا أو بريطانيا، نحن نعرف جيدا أن الخريج من جامعة كبرى يذكرها مقدما، وليس اسم الدولة، لأن المعروف لا يعرف. سأعطي مثالا مشهورا دوليا: أغلب المناصب الكبرى والزعماء في بريطانيا، يكونون من خريجي كامبردج وأكسفورد، وفي أمريكا أيضا جميع قضاة المحكمة العليا صاحبة السلطة العليا تقريبا، هم فقط من خريجي هارفارد ويال (لأنهما أشهر وأرقى كليتان في أمريكا في القانون)، وأغلب من في المناصب الكبرى في اليابان هم من خريجي الجامعات الإمبراطورية الثلاث الكبرى وهكذا دواليك، وهذا العرف لا يعني أن بقية الجامعات ليست جيدة، لكن جرت العادة أن المتميز يستقطب، لذلك نتمنى لو أن جزءا من هذا العرف العالمي يطبق لدينا، ونبدأ نركز على استقطاب المميزين من الشباب السعودي من الجامعات المميزة في أمريكا وأوروبا، لا يعقل أن أحدهم خريج جامعة أمريكية مرموقة، ويجد صعوبة في التوظيف، بينما خريج جامعة أمريكية (مش الحال) يستقطب كمستشار وخبير.

أتمنى أن تبدأ حملة كبرى (لصيد العقول) العالمية الأجنبية في كل مرافق ومؤسسات الدولة (اقتصاد وقانون، سياسة، تخطيط إلخ..)، وهذا ليس ضد السعودة بل على العكس، هذا ما سيكسب الجيل الجديد من السعوديين الخبرات العالمية التي يحتاجونها. استقطبوا العقول الأجنبية في كل المجالات الممكنة، لدينا عشر سنوات لتعليم وتدريب أبنائنا حتى 2030، لكن استقطبوا (خواجات أصل) ولست عنصريا بهذا، ولكن يحدث بشكل متكرر أن بعض العقول النظيفة المبدعة في الغرب من أصول عربية، يكون مبدعا في أمريكا وأوروبا، وعندما يأتي للخليج يلتم عليه مثل السوس أقاربه من عرب الشمال ويخربونه وكذلك القصة مع بعض الآسيويين.

الملك المؤسس عبدالعزيز رحمه الله استعان بالخبراء الأجانب العالميين لتأسيس الدولة، واستفاد البلد من خبراتهم، والآن نحن في السعودية الجديدة التي ترقى للعالمية، ما المانع من جلب عقول عالمية نستفيد منها، وأيضا تدرب شبابنا لنصل لأهداف 2030 بدقة واحترافية.

طموحنا عنان السماء كما يقول الأمير المجدد محمد بن سلمان وهو يثق بالمواطن والشاب السعودي، فيجب أن يكونوا على قدر طموح الأمير المجدد.